سنة 1993 شاركت فى حفل تأبين الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتى، رئيس معهد الدراسات الاستشرافية بدير الآباء الدومينيكان بالقاهرة، وكنت ربما أقصر قامة شاركت فى المناسبة، قياسا بقامات حضرت مثل الأستاذ الدكتور سليمان حزين، أستاذ أساتذة الجغرافيا ومؤسس جامعة أسيوط ووزير الثقافة أيام الرئيس عبدالناصر، وأذكر أننى اختصرت كلمتى فى تناول زاوية محددة هى أن أبانا الراهب جورج شحاتة قنواتى اتجه للرهبنة، كى تنتصر روحه على جسده أو لاهوته على ناسوته، ولكنه فى اللحظة ذاتها وضع نفسه فى خدمة العلم والفلسفة واللاهوت، ثم قرر أن يفنى فى خدمة ناسوت أو جسد آخر هو المجتمع وهو الشعب وهو الناس، بمختلف أديانهم ومذاهبهم وأجيالهم وجنسياتهم، فضرب لذلك مثلا، فهذا للذين يريدون الخلاص والفداء بأن خلاصهم وفداءهم يكون بخدمة العلم والناس.. وأن الإيمان يسكن القلب ويسمو بالروح ولابد أن ينعكس على المحيط الإنسانى.
ومنذ أيام دعيت إلى ندوة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، لأساهم فى الحديث عن كتاب «المسيحية والحضارة العربية» الذى ألفه أبونا الدكتور جورج شحاتة قنواتى وأصدرته الهيئة العامة للكتاب لحساب مكتبة الأسرة، وأدار الندوة الصديق الأستاذ الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، وشارك فيها الصديق الأستاذ الدكتور القس إكرام لمعى أستاذ اللاهوت المقارن والذى ينتمى للكنيسة الإنجيلية.
ومن فورى لبيت الدعوة، لأن المؤلف والكتاب عزيزان على عقلى وروحى إلى أبعد الحدود.. لكن ما هالنى وأزعجنى هو أن طبعة هيئة الكتاب المؤرخة هذا العام 2014 والتى يشرف عليها أستاذ جامعى يدرس اللغة العربية - إذا كان لديه وقت بالطبع يعطيه لتلاميذه ولكليته وللعلم - فيها أخطاء مطبعية فظيعة، رغم أن هناك قائمة من الأسماء المرموقة احتلت صفحة داخلية بأكملها، وهى قائمة تحمل عنوان اللجنة العليا، وفيها أسماء أكن لها ودا واحتراما وبعضهم أخوة لى وأصدقاء، وهنا لابد أن أقول: إن الود والاحترام والأخوة والصداقة لا تمنع من الغيرة على سمعة هؤلاء الأصدقاء والأخوة، ولا تمنع كذلك من إبداء الرأى حول ما أظنه جريمة فى حق غائب لا يملك الذود عن نفسه، خاصة أن هذا الغائب إنسان بقامة الدكتور جورج شحاتة قنواتى، ولو أن أحدا من تلك اللجنة العليا الموقرة كلف نفسه أن «يبص» بطرف عينيه على كتاب يحمل إشارة لاسمه لما قبل بهذه الجريمة.
طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، لكتاب «المسيحية والحضارة العربية» تخلو أولا من أية إشارة لبيانات الطبعة الأولى الأصلية التى يمكن أن يكون المؤلف راجعها بنفسه، وحرص على أن تأتى خالية من الأخطاء، وتخلو ثانيا من أية إشارة إلى سيرة المؤلف ودوره فى البحث العلمى وفى التأليف وفى الحوار الوطنى بوجه عام، وتخلو ثالثا من أية إشارة مختصرة لمضمون الكتاب، وكان يمكن أن تحتل هذه الإشارة الغلاف الخارجى الأخير، وتخلو رابعا من أية تدخلات علمية واجبة، كان يمكن أن تحتل هوامش بعض الصفحات، ابتداء من التمهيد الذى كتبه المؤلف وذكر فيه قصة كتابته للكتاب، وأتى فيه على ذكر اسم الدكتور محمد خلف الله، وكان وأراد أن يشار فى الهامش إلى من هو ذلك الرجل الذى له دور مهم فى الدراسات الإسلامية وفى العمل الوطنى العام.
إنك تفاجأ.. أو بالأصح لن تفاجأ بأن يضع أحمد مجاهد اسمه ببنط مميز تحت عنوان المشرف العام بالتوازى مع قائمة تضم عشرة أسماء، هم اللجنة العليا ولا تكتشف أية بصمة لواحد من الأسماء كلها، ولا أدرى إذا كانت اللجنة العليا تأخذ أجرا من أموال هيئة الكتاب أم أن الأجر والثواب عند الله، وسواء كان أجرا نقديا أو أجرا «آخرويا»، إلا أن الواجب يقتضى ألا يضع المرء اسمه على بضاعة كانت سليمة ثم أصبحت «معيوبة» بفضل الإهمال الرسمى.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر تجد صفحات كتبها المؤلف عن يحيى بن عدى المفكر اليعقوبى الشهير، وفيها أنه ولد سنة 893 فى كريت، وأنه عمّر طويلا فتوفى فى سن الحادية والثمانين فى 15 أغسطس سنة 1974 ولك أن تضع كل علامات التعجب لأنك لم تعرف هل كانت سنة ميلاده هجرية أم ميلادية، وسواء كانت هجرية أم ميلادية، فلا يمكن أن يكون قد عاش إلى أغسطس 1974 ويبدو أنهم تركوا للقارئ أن يمارس رياضة ذهنية، ليكتشف أنه إذا أضاف عدد السنين التى عاشها يحيى بن عدى، وهى 81 سنة إلى سنة ميلاده فستكون سنة وفاته هى 974 ميلادية!
ثم إنك تجد المطبعة وقد ذكرت كلمتين هما «المساطرة» بالميم و«النساطرة» بالنون والأصح طبعا هو الثانية، إلا أن أحدا لم يكلف نفسه بمراجعة الكتاب ولا بكتابة مقدمة ولا بالتدخل العلمى من خلال الهوامش، لأن من حق الناشر أو المحقق أو المشرف أن يتدخل إذا لزم الأمر، وفق القواعد العلمية المعروفة للتدخل من هذا النوع!
لقد ولد أبونا الدكتور قنواتى عام 1905 بالإسكندرية، ودرس الصيدلة وعمل بها لمدة خمس سنوات، ثم درس الفلسفة واللاهوت ونال درجة الدكتوراة فى كليهما، وانتظم فى سلك الرهبنة بانضمامه إلى الآباء الدومينيكان فى بلجيكا وفرنسا، ثم عاد إلى وطنه ليعمل بدأب وجدية، وإخلاص ويرأس معهد الدراسات الاستشرافية فى دير الآباء الدومينيكان بالقاهرة، وهو دير تحول إلى منارة مشعة بالعلم والمعرفة وفيه مكتبة عامرة بآلاف المصادر والمراجع، وتقدم خدماتها لكل من يريد وتعطى وجبة طعام خفيفة لمن احتاجها أثناء مهمة الاطلاع!
وقد ألف أبونا قنواتى مؤلفات بغير حصر، منها مؤلفات عن «ابن سينا وابن رشد والمسيحية والحضارة العربية وفلسفة ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية»، وكان يحاضر ويعقد حلقات الحوار والنقاش بسماحة وحب ليس لهما حدود.
ثم إن الدكتور الأب جورج قنواتى قد استطاع أن يمضى فى صنع الضفائر المصرية التى طالما كتبت عن أننا كشعب مغرمون بها، ابتداء من جدائل الخوص فى أعياد القيامة، وليس انتهاء بالضفائر الحضارية والثقافية كالضفيرة التى تجمع إيزيس والسيدة العذراء والسيدة زينب، أم هاشم والضفيرة التى تجمع الخمسة وخميسة وقد كتبت عنها مرات من قبل.
استطاع الأب قنواتى أن يضفر العلم والفلسفة واللاهوت والرهبنة وخدمة المجتمع فى ضفيرة واحدة محكمة تمثلت فيه هو.. ثم استطاع أن يضفر التراث الحضارى العربى منذ قبل الإسلام ومن مختلف البقاع العربية، سواء من اليمن والحجاز والعراق والشام وفلسطين ومصر فى ضفيرة واحدة تنتظم فيها الإضاءات عن الشعراء والفلاسفة والعلماء والصيادلة واللاهوتيين وغيرهم، وكيف أن حضارتنا العربية التى ازدهرت منذ ما قبل البعثة المحمدية تستحق أن نغوص فيها لنجد أسماء عملاقة أفادت البشرية، وكانت منارات للدنيا فى عصرها.
لقد لفت نظرى إشارة الأب جورج شحاتة قنواتى إلى أن الذى اقترح عليه الكتابة فى الموضوع هو صديقه محمد خلف الله، تذكرت علاقتى بالدكتور خلف الله الذى كتب رسالته للدكتوراة عن القصص القرآنى، وأثار بحثه جدلا هائلا حول رمزية هذا القصص واستمر الدكتور خلف الله فى دوره التنويرى، وانضم إلى حزب التجمع حتى وافته المنية منذ سنين، وانطوت صفحته فلم يعد أحد يذكره، وهنا نتوقف أمام ممارسة كان آساتذتنا يقومون بها وهى التكامل العلمى وتزكية آخرين، لينهضوا بمهمة لا ينهض بها سواهم، ولا بأس من أن يأخذوا الأضواء رغم أن الفكرة لم تكن فكرتهم.. ثم يأتى من أخذ الفكرة ليذكر بكل احترام وتجرد أن صاحب الفكرة هو فلان الفلانى لينسب الفضل إلى أهله.
ولفت نظرى أيضا فقرة ختامية كتبها الأب قنواتى فى ختام تمهيده يقول فيها: «.. نرجو أن نكون قد أسهمنا بعملنا المتواضع هذا فى تعريف بعض مظاهر حضارتنا العربية العظيمة، وإبراز ما قام به المسيحيون العرب من علماء وشعراء ومؤرخين ولاهوتيين مع إخوانهم المسلمين يدا بيد فى سبيل تشييد صرح الحضارة العربية ورفع شأنها، هذه الحضارة التى هى ثمرة مجهود الجميع وموضع فخر لكل الناطقين بالضاد. وفقنا الله جميعا إلى ما يرضيه وإلى مواصلة إشعاع عروبتنا العزيزة».
التوقيع: راهب مسيحى دومينيكانى كاثوليكى مصرى متمسك بحضارته العربية.. وبإشعاع عروبتنا العزيزة!
هل هى رطانة قديمة يتمسك بها أمثالى من القابضين على جمر وطنيتهم وقوميتهم وعروبتهم وإنسانيتهم فى ضفيرة واحدة لا تحتمل التفكيك، وهل كان أبونا جورج شحاتة قنواتى مبالغا أو مرائيا أو طامعا فى جاه أو كرسى أو منصب، عندما أضنى عقله وبذل كل جهده لتلك المهمة.. مهمة إجلاء وجه حضارتنا العربية ومواصلة إشعاع عروبتنا؟!
حاشا لله.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Mora
مقال رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
رشاد
انا كمواطن مصرى أشكر كاتب المقال على اهتمامة بالدفاع عن الثقافة المصرية الجميلة الراقية
**************************
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي
تحيه الى روح الراحل العظيم
عدد الردود 0
بواسطة:
عمادالدين جمال
رطانة قديمة!! لكنها رطانة ظريفة ومطلوبة.