أن نضع الأمر أو الحدث فى سياقه الطبيعى يعنى ألا نهون منه ولا نبالغ فيه، لأن السياق الطبيعى هو الظروف التى أحاطت بالأمر فكان جزء منها بمثابة مقدماته وأسبابه وعوامل ظهوره وكيفية سريانه وملامحه التى قد تنبئ عن نتائجه، وتلك أجزاؤها الأخرى! وفى ظنى أن السياق الطبيعى لحادث- وأقر أنها تسمية مخلة فى تبسيطها- استشهاد سبعة من مواطنى مصر المسيحيين فى بنغازى الليبية، بعدما تم فرزهم عن طريق التفتيش على علامة الصليب الموشومة على بطن سواعدهم أو ظاهر أيديهم، هو السياق نفسه الذى حدث فيه استهداف السياح الأجانب فى الأقصر وبقر بطونهم واستهداف الكنائس فى غير مدينة وقرية مصرية، واستهداف عرس مسيحى فى الوراق، واستهداف مجموعة أسر تتمذهب بالمذهب الاثنى عشرى الجعفرى «الشيعى» والتمثيل بأجسادهم، إنه السياق الضارب بجذوره للفترة الأموية التى كان يقف فيها الخطيب على المنبر ويسب الإمام عليا وآل البيت ثم ينزل ليؤم الصلاة، وفيها يقرأ التشهد وفيها عبارة كاملة تنص بالصلاة على محمد وآل محمد وإبراهيم وآل إبراهيم، وقد كان آل البيت هم آل محمد وهم من آل إبراهيم، كذلك بحكم أن إبراهيم الخليل عليه السلام هو الجد الأكبر للرسول ولعلى ولمن تناسل منهما!
وإنه هو السياق نفسه الذى كتب فيه ابن تيمية ما كتبه وكتب حسن البنا ما سطره، ومنه ما سبق وكتبت عنه فى هذه المساحة، حيث جاء فى رسالة الجهاد لحسن البنا ما يفيد صراحة وبوضوح لا لبس فيه ولا ضبابية ولا احتمال لوجه آخر من وجوه الفهم «أن من يقتل كتابيا فإن له أجر مجاهدين»، لأن الشيخ حسن فهم الأمر بمفهوم المخالفة، لأنه احتج برواية تقول إن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قال للمرأة المنتقبة التى جاءت تبحث عن جثمان ابنها الشهيد وقد أبت أن تنزع نقابها قائلة :أن أُرزأ فى ابنى خير من أن أُرزأ فى دينى. فقال لها النبى ما معناه «إن لابنك أجر شهيدين لأن من قتلوه كانوا من أهل الكتاب»!! هذا هو السياق التاريخى والنظرى لما حدث فى بنغازى، وهو السياق نفسه الذى ستتفاقم آثاره لنجد قتلا أوسع على الهوية الدينية، ثم قتلا على الهوية الطائفية، ثم قتلا على الهوية المذهبية، ثم قتلا على ما هو تحت مذهبى، أى أن تكون سنيا حنفيا تفضل رأى الجمهور!
هى إذن بوابة الهلاك الأسود الأشد خطرا من الطواعين والكوليرا ونقص المناعة والفشل الكلوى والكبدى والفيروسات والسرطان، فإن تلك جميعا أمراض قد يمكن التصدى لها بالعلم والتقنية، بل تم بالفعل انقراض بعضها كالجدرى والطاعون وشلل الأطفال وما شابهها، أما وباء القتل على الهويات فما دخل بلدًا إلا وأورده قاع المهالك، لأن الهوية تتجاوز الانتماءات الدينية والطائفية والمذهبية وما تحت المذهبية إلى انتماءات جغرافية وجهوية ومناطقية وعرقية وقبلية وعشائرية وأسرية بل أيضا مهنية، إذ قد لا نفاجأ بمن ينتظر أهل مهنة معينة ليقتلهم بغية استئصالهم، لأنهم يمثلون خطرا ما على أمر ما يسكن دماغه هو ولا أحد غيره يعرفه!
وهى إذًا ثغرة القضاء المبرم ولو مرحليا إلى أن يتم ردمها على الانتماء الوطنى وعلى الانتماء القومى وعلى الانتماء الإنسانى، يعنى بالجملة القضاء على كل منجز الدولة الوطنية وعلى أى لون من ألوان التواصل الإقليمى، ابتداء من ذروته بالوحدة العربية ونزولا إلى أدناه بالتنسيق الاقتصادى والتواصل الثقافى، وأيضا القضاء على منجزات العلم وثورتى الاتصال والمعلومات!
لقد عاش أجدادنا وبعض آبائنا الأيام التى كان ينطلق فيها ابن المنطقة من نواكشوط على ساحل الأطلسى ويمضى ليحج فى مكة والمدينة وقد يواصل إلى بغداد ويتجاوزها إلى بخارى وسمرقند، دون أن يستوقفه أحد ودون أن يسأله سائل عن دينه أو مذهبه أو هويته الجغرافية، وعشنا نحن نتغنى بحلم استعادة الوطن العربى الواحد الذى جمعته الجغرافيا السهلة المتصلة بدون عوائق من جبال أو بحار وجمعه التاريخ واللغة والوجدان والدين وإلى آخره، وتمنينا أن نعيش عودة قطار الشرق السريع الذى قد يتطور ليمضى من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق والشمال والجنوب، مستكملا ما كان عليه «القطار المؤسس» الذى كان يمضى من مصر إلى فلسطين والشام والعراق إلى الجزيرة العربية، ولكن هذا كله سواء كان واقعًا عاشه أجداد أجدادنا وبعض أبنائنا أو كان حلما عشناه بمخيلاتنا سيتحطم، أو هو قد تحطم ولو مرحليا، على قاعدة الفهم الخاص للانتماء الدينى الذى أرساه ابن تيمية وحسن البنا وخلفاؤهما بفروعهم المختلفة، وآخر طبعة سوداء منهم وهى طبعة بنغازى التى كانت ولحقبة طويلة عاصمة المد الوحدوى العروبى التحررى فى الشمال الأفريقى، ومنها خرج المد العسكرى والبشرى والمادى للمناضلين ضد الاستعمار الفرنسى فى الجزائر بعد أن جاءهم المدد دافعا من مصر عبدالناصر!
إننى لا أشك لحظة واحدة فى أن حلف الناتو وقطر كانا يخططان لكى تنتهى حالة الاستبداد والفساد القذافية بأن يكفل انتهاؤها انتهاء الدولة الليبية نفسها وانتهاء كل مقومات الوجود الليبى الحديث التى راكمها شعب ليبيا عبر عصور وجوده الطويلة، وخاصة منذ مقاومته الغزو الإسبانى فى مطلع القرن السادس عشر الميلادى، وفى هذا السياق أود أن أستشهد بوثيقة قديمة وردت فى «الحوليات الليبية منذ الفتح العربى حتى الغزو الإيطالى»، وهى من تأليف شارل فيرو ونقلها إلى العربية وحققها بمصادرها العربية ووضع مقدمتها النقدية الدكتور محمد عبدالكريم الوافى، وهى من منشورات جامعة قار يونس بنغازى.
الوثيقة هى نص الخطاب الذى كتبه الملك فرديناند ملك إسبانيا عند مطلع القرن السادس عشر، ويشير إلى أن الحملة التى سيرت ضد طرابلس كانت مبيتة، ويشير المؤلف إلى أن نص الخطاب موجود فى دار محفوظات بلده «سيما نكاص» الإسبانية، والخطاب موجه من الملك إلى الكونت «دون بيترو دى نافارا، القائد العام لجيشنا ومستشارنا»، ومما جاء فيه أنقل ما يلى: «وأعتقد، كما سبق لكم وأن ذكرتم لى فى خطاباتكم مرارا، أننا إذا أردنا أن نحافظ على وجودنا فى إفريقيا فإنه يتحتم علينا أن نحتل مدن وهران وبجاية وطرابلس، وفى حالة احتلالنا لهذه الأخيرة يتوجب علينا أن نعمرها برمتها بالنصارى»، ثم ينقل المؤلف عن كاتب أجنبى هو «مارمول» وله كتاب عن إفريقيا يتحدث فيه عن طرابلس: «اشتهرت هذه المدينة فى جميع الأزمنة بتجارة مزدهرة وذلك بسبب مجاورتها لتونس ونوميديا، ولأنه لم تكن هناك مدينة كبيرة تنافسها على طول الساحل حتى الإسكندرية، وكان من عادة تجار مالطة والبندقية وصقلية أن يتعاطوا التجارة معها، بل إنه حتى السفن الفليونية الشراعية، كانت ترسو فى مينائها عادة، حتى إنه قد نشأت فيها طبقة من كبار التجار وازدانت المدينة بالمساجد والمعاهد والمستشفيات، وكانت ميادينها وشوارعها أجمل من ميادين وشوارع مدينة تونس.
هكذا كان حال ليبيا قبل أن يغطيها طاعون التمييز الدينى الأسود ويتفشى فيها الشياطين الذين نزعوا منها كل بركة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
لك الله يا مصر
لك الله يا ليبيا
لا حول ولا قوة الا بالله