توقفت طويلا أمام تصريح لهيلارى كلينتون كتبته فى مذكراتها التى تصدر اليوم الثلاثاء بعنوان «خيارات صعبة»، والتصريح نشرته صحف نقلا عن محطة «سى بى إس نيوز» التى حصلت على الكتاب قبل نزوله الأسواق، حيث قالت الست هيلارى عن موقفها الداعم لغزو العراق عام 2002، وكانت عضوا آنذاك فى مجلس الشيوخ الأمريكى: «أعتقد أننى تصرفت بشكل صحيح، واتخذت أفضل قرار ممكن مع المعلومات التى كانت بحوزتى.. ولكن كنت على خطأ».
يا الله!!
هكذا هى مصائر الشعوب، ومن ثم حاضر ومستقبل ملايين الأطفال والشباب، ومآل ملايين الأرواح عند صانعى القرار ومتخذيه فى العالم المتقدم.. عالم أحدث طفرات التقدم التقنى.. وعالم أقوى بناء علمى ومعرفى.. وعالم أعمق التطبيقات الديمقراطية وأعلى صيحات حقوق الإنسان والحيوان والبيئة.
هكذا ببساطة: «كنت على خطأ»، وبدون أية زيادة، ولو حضرتك تجاسرت ورددت بسؤال تبدأه بعبارة أهلك الفلاحين: «كسبنا صلاة النبى باعترافك»، لكن من المسؤول عن الدمار والخراب والقتل والتفتيت والفتن والضياع، وما لا يمكن حصره من جرائم ضد الإنسانية والبيئة والموارد الطبيعية؟! قيل لك: احترم نفسك وشوف أنت بتكلم مين؟! إنها الست هيلارى سيدة أمريكا الأولى لدورتين رئاسيتين وعضو مجلس شيوخ.. ووزيرة خارجية.. ماذا تريد منها بعد أن امتلكت شجاعة الاعتراف بالخطأ.. عاوزها تنتحر مثلا؟! أم تريد منها لبس جلابية سوداء وطرحة سوداء والقدوم إلى العراق لتزور مقابر الضحايا وتوزع ما استطاعت من «الرحمة».. يعنى «قراقيش وبلح عجوة»، حتى يغفر لها ولهم الله؟!
إننى كثيرا ما أفكر، وبناء على تجارب معينة، أن هناك بشرا بدون عواطف إنسانية تجاه من هم خارج دائرتهم المباشرة، يعنى أولادهم وفقط، بل ربما وكما عرفنا من تاريخ العصور المتعاقبة قديمة ووسيطة وحديثة ومعاصرة، أنهم لا يمتنعون عن ضمور عواطفهم حتى تجاه فلذات أكبادهم، خاصة إذا كانوا من الدائرة العليا.. دائرة العرش والكرسى، أى الأباطرة والملوك والرؤساء.
ولقد صادفت بعض الحالات من هذه العينة، وأذكر أننى ذات مرة منذ ما يقرب من ثلاثين عاما انحشرت فى جلسة بمنزل المغفور له الأستاذ أحمد الخواجة، نقيب المحامين، وكان رجلا فذا بمعايير كثيرة، وكان الحضور مع الأستاذ الخواجة المرحوم أشرف مروان والسيد عبدالحميد عبدالناصر، وكان الحديث عن طرف غائب عن الجلسة، هو الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان مطلوبا منى موقف معين ضد الأستاذ هيكل، وكان المقابل مبلغا هيوليا من الدولارات تعهد به أشرف مروان.. وأذكر أننى قاومت وقلت للأستاذ الخواجة: لو أنك مكان الأستاذ هيكل هل كنت تقبل أن أفعل معك ما يطلب منى الآن؟ فازداد الحصار، وإذ بالمشهد ينفرج بصوت قادم من باب يؤدى إلى مكان جلوسنا: «خلاص يا جماعة.. خلاص يا أحمد يا خواجة.. جرى إيه يا سى أشرف.. قوم يا واد - والحديث موجه لى - روح لأولادك.. دى ناس ماعندهاش رحمة ولا قلب ولا عواطف دا صراع فيلة - جمع فيل - وأنت زى العشب تحت أقدامهم لا يشعرون بك!!».
وجذبتنى صاحبة الصوت بقوة إلى باب الخروج وفتحته لأنزل السلالم ركضا، وتوجهت لمنزل الأستاذ هيكل!!.. كانت صاحبة الصوت هى السيدة العظيمة وفاء زوجة الأستاذ الخواجة، والقصة طويلة ومثيرة، ليس هذا مجال الاستفاضة فيها، ولكننى منذ سمعت عبارة «دى ناس ماعندهاش رحمة ولا قلب ولا عواطف» وأنه «صراع أفيال والبشر كالعشب تحت أقدامهم»، وأنا ألتقط من مسافات بعيدة كل الإشارات التى تنم عن غياب الإنسانية.. أى الرحمة والقلب والعاطفة عن تكوين بعض البشر.. ولذلك ما أن التقطت عينى كلام هيلارى حتى استيقظت النداهة داخلى.
تصوروا: «.. لكن كنت على خطأ»، أربع كلمات من الست وكفاية، بينما العراق مازال ينزف، وسوريا تنزف وليبيا واليمن ومصر ينزفون وإن اختلفت الدرجة، وقد نفاجأ بعد عدة سنوات بأمثال هيلارى من الإدارة والكونجرس فى أمريكا بمن يريد أن يكفر عن جريمته، فيقول فى كلمات أربع مماثلة «لقد كنت على خطأ» تجاه تدبيرى أو تخطيطى أو موافقتى على ما حدث فى سوريا أو ليبيا أو مصر واليمن.
وإذا عملنا «زوم» وقربنا المشهد، فسنكتشف أننا عشنا ونعيش مشهدا فيه المفارقات نفسها.. لأننى أعتقد وبقوة أن من يدفع ببشر يحبونه ويعتقدون فيما زرعه عندهم من أفكار، إلى محرقة يحرقون فيها أنفسهم، هو كائن بلا رحمة ولا عاطفة ولا قلب.. لأننى لا أتصور أن محمد بديع ومعه أعضاء مكتب الإرشاد وبقية الذين خططوا لرابعة والنهضة وغيرهما، وظلوا يعبئون أعضاء التنظيم ويحرضونهم على العنف والتدمير وقبول الموت باعتباره استشهادا، لديهم ذرة من إنسانية أو رحمة أو عاطفة، والأكثر دلالة هو ما يظنون أنه الدليل الذى يدافعون به عن أنفسهم ويسوغون به ما فعلوه، وهو مصرع أبناء بعضهم فى تلك الأحداث، لأننا نسمعهم يتحدثون عن ذلك وكأنهم هم أول من ضحى.. لكن الحقيقة هى أن ضمور عواطفهم وجدب إنسانيتهم وصل للمرحلة التى يقبلون فيها مصرع فلذات أكبادهم فى محرقة أرادوها تمسكا بالكراسى والامتيازات وسدة الحكم، فما بالك بموقفهم تجاه من ليسوا أولادهم! وربما يمتعض البعض من هذه القراءة للمشهد ويسأل: ماذا عن المناضلين والشهداء الذين يضحون من أجل دعوة سماوية أو ثورة تحررية؟ وهل الرسل والقادة الذين دفعوا الناس للجهاد والتضحية والاستشهاد هم كما تحاول أن تصور الأمور؟
وأجيب بأن هناك فارقا ضخما بين القتال والاقتتال، وبين الجهاد وبين الفتن الثائرة فى جسد وعقل وروح الأمة، وبين التضحية بالنفس والمال والولد من أجل صد هجوم يريد استئصال عقيدة، أو احتلال وطن، وبين الهلاك فى فتنة تتخذ فيها العقيدة ستارا والأوطان شماعة.
إن الفرق ضخم، بل إنه لا قياس ولا جواز للجمع فى سياق واحد بين غزوة بدر وغزوة أحد وبقية الغزوات، وبين معركة الجمل ومعارك الفتنة الكبرى.. ولا يمكن أن يوضع الشهداء فى الحرب ضد الكفار والمشركين فى كفة واحدة مع صرعى الاقتتال الذى دار منذ مقتل عثمان حتى وإن كان هؤلاء الصرعى من كبار الصحابة.
ولعلى أختم بتساؤل عادة ما يرد على الذهن، ليس فقط تجاه اعتراف هيلارى، ولكن تجاه كل ما عانيناه منذ غزانا محتل أجنبى قبل الميلاد، أى فرس وإغريق ورومان، وحتى الإنجليز: هل يجوز للضحايا أن يطلبوا تعويضات من هؤلاء الذين يعترفون أنهم أخطأوا، وإذا جاز فكيف يمكن طلبها والحصول عليها! وهل تكفى أموال الدنيا وكنوزها لتعويض وطن وشعب وأمة عن تدمير حاضرها وضياع مستقبلها واغتيال حضارتها وتراثها؟!
أو كما قال المبدع الكبير الراحل أمل دنقل:
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هى أشياء لا تشترى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة