كانت أحاديث الغرف المغلقة والمنفردة هى الأكثر إثارة فى لقاءاتى المتعددة بالدكتور أحمد جويلى، أهم وزراء حكومات «مبارك»، وأكثرهم طهارة ونظافة وشفافية، والذى رحل عن عالمنا قبل أيام.
عرفته عن قرب منذ عام 1994، بفضل تلميذه الوفى والرائع الصديق الدكتور إمام الجمسى الخبير المرموق فى الاقتصاد الزراعى، الذى انتهل من أستاذه علما وإنسانية وإدارة وانحيازا إلى الفقراء، ومن خلال هذه العلاقة عرفت أن لـ«جويلى» تلاميذ كثيرين من الباحثين ينتشرون فى الجامعات المصرية ومراكز البحوث فى اقتصاديات الزراعة داخل الوزارة وخارجها، وكان أهم ما يميز هؤلاء أنهم ليسوا تلاميذ علم وفقط، وإنما مريدون لرجل نظيف ووطنى من طراز رفيع.
شغل «جويلى» منصب المحافظ لسنوات، ثم تولى وزارة التموين، بالرغم من أن تلاميذه كانوا يرون أنه الأحق بمنصب وزير الزراعة من الدكتور يوسف والى، ولكن لأنه لم يكن له شلة نافذة فى دولاب نظام مبارك، لم يأته المنصب فضاعت خططه الطموحة للنهوض بالزراعة، لكن لما جاءته وزارة التموين ترك بصمته العظيمة عليها، وكنت شاهدا على ذلك.
هو الأب الشرعى لقانون منع الاحتكار، كان أول من أثاره، وشكل لجنة لوضعه، حتى خرج الملف من يديه، ووقف بقوة ضد محاولات زميله فى الوزارة «عاطف عبيد» لخصخصة المجمعات الاستهلاكية ببيع منافذها، وكان «عبيد» وزيرا لقطاع الأعمال فى حكومة الجنزورى، وقال «جويلى» إنه لابد أن يكون للدولة منافذ تحت يدها لبيع السلع الاستهلاكية للفقراء فى ظل النهج الرأسمالى المتوحش، وحتى لا تكون الدولة تحت رحمة محتكرى السلع، ونجح فى المعركة، ولنتخيل الآن لو كان «خيار عاطف عبيد» هو الذى نجح.
رأيته كيف تصرف فى أزمة السكر عام 1995، بطرح كمية من المخزون الاستراتيجى فى الأسواق بموافقة مبارك، وحضرت مكالمة تليفونية من مبارك له حول ذلك، وسرت معه كصحفى فى الأسواق وهو يقود حملات ضد السلع المغشوشة ومنتجات «بير السلم»، وكانت حصيلة كل ذلك تألق شعبيته بين المصريين، ونال فى استطلاعات الرأى المرتبة الأولى فى الشعبية بين المسؤولين، ومن هنا بدأت الحرب ضده، وأحاديث الغرف المغلقة بينى وبينه.
كان يعرف أننى صحفى معارض لنظام مبارك، لكنه كان يثق فى أن فضفضته لى لن أحولها إلى «مانشيتات» صحفية، احتراما منى لرغبته، ذات مرة كنت عنده فى يوم تال لاجتماع لمجلس الوزراء، فقال لى: «امبارح تطوع وزير قائلا وهو يضحك: الناس بتقول إن جويلى عامل جمهورية مستقلة اسمها وزارة التموين»، كانت ضحكة «الوزير» تخفى وراءها نوايا شريرة، وكان القول بمثابة رسالة متعددة الأوجه، ولما تعددت جولاته فى الأسواق، علق وزير فى اجتماع للوزارة: «الدكتور جويلى عايز يثبت إن لياقته عالية».
كان يحب الدكتور كمال الجنزورى وقبله الدكتور عاطف صدقى، وسمعت منه صراع شلل الوزراء ضد الجنزورى الذى انتهى بإقالة مبارك له من رئاسة الحكومة، وتكليف «عاطف عبيد» بتشكيلها، وكانت المفاجأة بخروج «جويلى»، وكنت ممن توقعوا ذلك لأنه عامر بحب الناس، أما «عبيد» فبضاعته فاسدة، وبالطبع لا يلتقى الاثنان، رحم الله دكتور جويلى وعوضنا عنه خيرا.