رحل المشاغب سعيد صالح ومن قبله يونس شلبى ومن قبلهما أحمد زكى، وبقى من مدرسة المشاغبين عادل إمام وسهير البابلى وحسن مصطفى، وقد عرفت يونس شلبى أثناء الدراسة فى جامعة عين شمس، واقتربت من سعيد صالح بصحبة الصديق الفنان الأستاذ عصام السيد المخرج المسرحى، واقتربت من عادل إمام فى جلسات العم الساخر الراحل محمود السعدنى، ثم فى معية الفنان صلاح السعدنى، منحه الله الصحة وطول العمر، وقد شاء حظى أو الصدفة أو هما معا أن أقترب من هذا الوسط على مرحلتين، الأولى أثناء الدراسة وقد كنت رئيسا لاتحاد طلاب كلية الآداب جامعة عين شمس، وبعدما تخرجت وبقيت ممثلا للدراسات العليا فى اتحاد الجامعة، وكنت أعمل بها أيضا بمركز بحوث الشرق الأوسط.
وكان الاتحاد على أيامنا مؤسسة قوية، وكانت لجانه لجانا بجد.. فالجوالة يمارسون نشاطهم ويلبسون ملبسهم المميز وينظمون الأنشطة التى ينتدبون لتنظيمها فى تفانٍ ودقة والتزام وخلق حميد. والرياضيون ينطلقون فى ألعاب القوى من جمباز وحديد وغيرهما، أما اللجنة الفنية فقد كانت على أعلى مستوى، ويكفى أنها كانت تضم نجوما عرفناهم بعد ذلك فى الإخراج والتمثيل كعصام السيد ومحسن حلمى فى مجال الإخراج، أما التمثيل فخذ عندك يونس شلبى ومحمود حميدة وسامى مغاورى وحسن الديب، أما فى مجال الموسيقى والتلحين فهناك عماد الرشيدى والعملاق العبقرى عمار الشريعى ومصطفى البصيلى وسعيد فرماوى، الشاعر وعازف الناى وفنان الكاريكاتير، وأسماء أخرى عديدة وكبيرة!
ثم كانت المرحلة الثانية وذروتها أثناء وجودى بجريدة «الخليج» فى الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وكان أن جاء محمود السعدنى ليقيم هناك، وكانت القاهرة قد تخلفت فى حكاية الإنتاج الفنى، وظهرت استوديوهات عجمان بالإمارات وكذلك استوديوهات دبى، وبدأت وفود الفنانين تتواكب، وكنت أنهى عملى بالجريدة فأكتب العمود اليومى «قضية» وأسطر الافتتاحية، وأقدم مواد الصفحة الثالثة، صفحة الرأى، وأنطلق إلى عجمان، أو أستضيف الفنانين فى منزلى، ولنا حكايات لا تحصى وطرائف لا تعد، وضحك حتى تتقلص عضلات البطن وينقطع النفس.. وهناك التقيت صلاح السعدنى ونبيل الحلفاوى ومحمد وفيق ومحسنة توفيق ويوسف شعبان وإبراهيم سعفان وسعد أردش ومحمود أبو زيد والمعلم محمد رضا وسناء يونس وشريهان وإيمان الطوخى وأمينة رزق وزوزو نبيل وكثيرين آخرين.. ولا أريد أن أفتح البرجل لأحكى المواقف والطرائف التى تقطع النفس من كثرة الضحك.
رحل سعيد صالح وقد هده المرض، وما هو ألعن من المرض، وأعنى به جفوة الأصحاء من الزملاء والأصدقاء، ولا أدرى لماذا يتسم ذلك الوسط وتتكرر فيه هذه الظاهرة.. ظاهرة النجم الذى تنحسر عنه الأضواء فينزوى ولا تتجه إليه أوامر الشغل ولا يفكر فيه كتاب النصوص ولا المخرجون، فيقل دخله وتنضب موارده وربما يتجه للإدمان أو يضربه المرض مع العوز فتكون الآخرة غير مريحة على الإطلاق!
سمعنا وربما عشنا قصص نهاية أسماء عملاقة كعبدالفتاح القصرى ورياض القصبجى وآخرين لم يجدوا دواء ولا قوتاً، وماتوا فلم يمش فى جنازاتهم إلا بعض البشر ممن اقتربوا منهم عند النهاية، وربما دفن بعضهم فى مقابر الصدقة! ولأجل ذلك وبسبب منه اتجه كثير من الفنانين من أجيال تالية إلى أن يكون لهم «بيزنس» خاص خارج نطاق الكار، أى المهنة، ففتحوا المطاعم والكافيهات وبنوا العقارات وأقاموا المراكز الخاصة بالتجميل وربما صالونات حلاقة وهلم جرا، حتى لا يبقوا أسرى للضوء الذى حتماً هو منحسر وأسرى لانتظار ريجيسير يناديهم لدور ولو لعدة دقائق!
وما قدمه جيل سعيد صالح من خريجى الجامعات المصرية وبعدها أكاديمية الفنون سوف يبقى فى تاريخ الوجدان المصرى وفى سجل القوة المصرية الناعمة، تلك الأداة التى مثلت أهم أركان الدور المصرى فى الوطن العربى وفى أفريقيا بل وعلى مستوى الإنسانية، لأن الأدب وفيه الرواية جزء لا يتجزأ من تلك القوة الناعمة، وقد كان أدب نجيب محفوظ هو البوابة التى دخلت منها المحروسة إلى نوبل.. وضمن تلك القوة الناعمة سنجد الموسيقى والأغانى وأصوات الست وعبدالوهاب وعبدالحليم والأطرش وقنديل وغيرهم وشادية وليلى مراد ووردة ونجاة وفايزة، وعشرات من النماذج التى انفتحت لها آذان وصدور وعقول الملايين، وكذلك سنجد المسرح والسينما، وسنكتشف أن كل ذلك مثل الوجود الحقيقى لمصر فى قلوب وعقول ووجدان الأمة العربية وسائر بلاد العالم الثالث، لأن مصر كانت تملك فى وقت من الأوقات شبكة من الإذاعات الموجهة التى تنطلق منها الأنغام والأصوات والنصوص لتصل إلى عمق أفريقيا وعمق أمريكا اللاتينية!
ولقد كانت الأعمال التى اشترك فيها سعيد صالح ورفاقه أحمد زكى وعادل إمام، وكذلك سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد وحسن مصطفى ومن قبلهم عادل خيرى وفؤاد المهندس ومدبولى وعبدالمنعم إبراهيم والجزيرى والدقن وفريد شوقى وعبدالوارث عسر.. وغيرهم، هى السفير المتميز لمصر، بحيث كان المصرى الذى يزور دولة فى المغرب العربى الكبير مثلاً يجد من يريد أن يجامله بترديد عبارات مسرحية أو تليفزيونية أو سينمائية جاءت على لسان أى من أولئك العمالقة الذين أعطوا واستمروا فى العطاء حتى آخر رمق.
ولست مبالغاً إذا قلت: إن عملاً واحداً من أعمال أولئك العمالقة من مؤلفين كنعمان عاشور وألفريد فرج وميخائيل رومان ومحمود دياب وعلى سالم ومحفوظ عبدالرحمن وأسامة أنور عكاشة وعبدالحى أديب، وغيرهم من الكتاب ومعهم عمالقة الإخراج والتمثيل كان وسيبقى له أثر فى التكوين الثقافى العربى وفى تكريس مكانة مصر، حضارة وثقافة وتاريخا، أكثر من أى نشاط سياسى مهما كانت درجة حنجوريته!
كنت أود أن أفتح بوابة الحكاوى التى كنت طرفا فيها بالمشاركة الفعلية أو بالمشاركة السماعية مع كثيرين، لكن المقام لا يتسع.. وفقط أردت أن أكتب سطورا أذكر فيها الراحل الجميل «سيعا»، المعروف بسعيد صالح الولد الشقى، والفنان ابن البلد بالفطرة، صاحب البصمات التى لن تنمحى والأنف الذى لم يتمرغ فى تراب أحد.. رحمه الله رحمة واسعة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة