فى مطلع التسعينيات قدمت المخرجة أنعام محمد على سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة لأول مرة فى مسلسل تليفزيونى، للسيناريست الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، وهو «ضمير أبلة حكمت» الذى بات واحدًا من علامات الدراما العربية.
كانت «أبلة حكمت» مثالًا أقرب إلى اليوتوبيا، اخترعته رؤية أنور عكاشة، مثلما ابتكر أبو العلاء البشرى، تنادى بمُثل وقيم لم يعد المجتمع يؤمن بها، تحارب طواحين الهواء، محاولة موفقة من «عكاشة» فى تأنيث «دون كيشوت»، وتقديم صورة المرأة «النبية» إن جاز التعبير.
فى مساء السبت الماضى، صعدت روح سيدة الشاشة «أبلة حكمت» فاتن حمامة إلى ربها، تاركة «زمن الغش»، وموصية بالتمسك بـ«الضمير»، بعد أن ضربت بالفعل قبل القول المَثل فى كيفية اكتساب احترام الأجيال المتباينة وإن اختلفوا فى المحبة. وورثتنا 103 أفلام ومسلسلين آخرها «وجه القمر» 2000، وعمل إذاعى وحيد.
فاتن حمامة فى الحياة كما فى السينما، ضمير يمشى على الأرض، ودور يؤدى بإتقان، تعرف إمكانياتها جيدًا فتزداد تواضعًا، وتحرص أكثر على تنمية ذاتها، ومراقبة سلوكها ونفسها. وفى زمن التسريبات، لا تسريب لفاتن، ولا تثريب عليها، لم تسقط يومًا فى كراهية، لم تصرح تصريحًا طائفيًا، لم تتورط فى تحريض على عنف أو ازدراء لفكر. كذلك لم تقع فى فخ تأييد عدو أو مستعمر، كما لم تلجأ لصوت «زاعق» دون فائدة.
خلال زيارتها لفرنسا منتصف الستينيات، أجرى التليفزيون الفرنسى لقاءً معها، سألها المحاور بوضوح هل تحبين الناس؟ أجابت نعم. فسألها: الجميع؟ قالت: «الناس الطيبون، الذين لديهم قلب». وعن كيفية معرفة أن لديهم قلب أوضحت «يمكن رؤية ذلك فورًا». فهى تحب من يشبهها، ولا تخادع «الجميع»، فمحبة المجموع «نفاق» كما أن كراهية الكلّ «جنون».
كما وعت فاتن، ومبكرًا، أنها بنت ثورة يوليو، وأن الفنان أكبر من كونه مجرد «ممثل»، وأنها تسعى لأداء «الدور الاجتماعى»، ورغم أنها بنت الطبقة «المستريحة» فقد أحستْ ما أحس به المصريون فى العهد الملكى من ظلم وفقر وتفشى الأمية والأمراض، فآمنت بـ«يوليو» لنصبح «أحسن ألف مرة» بقولها، وفى نهاية الستينيات تنتصر أيضًا للضمير فتخرج من مصر اعتراضًا على ما وصفته أيضًا بـ«ظلم الناس وأخذهم من بيوتهم للسجن فى منتصف الليل، وأشياء عديدة فظيعة ناهيك عن موضوع تحديد الملكية».
فاتن كما قال عنها الشاعر أنسى الحاج «أرقى صورة عن الفنّ المصرى»، لم تبتذل نفسها، فى عمل تافه حتى الأدوار «اللايت» كانت بدرجة أو بأخرى «فنية»، منتصرة لقيم اجتماعية أو إنسانية وقبلها لمفاهيم جمالية لا تتنازل عنها.
ترحل فاتن وتبقى «سيرتها» الجمالية والفنية، كأية على التصالح مع الذات والآخر، وعلامة نقول لها «وتأتين، ترسمين على القلب النوافذَ، تطلين منها، لنرى وجه الله».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة