إن طبيعة العلاقة بين الحضارات والأمم هى من الخصائص المميزة للنصف الثانى من القرن العشرين، حيث أدرك العالم أن البشرية لا تستطيع أن تتحمل حروباً عالمية جديدة، بعد أن شهدت ما جلبته الحرب العالمية الأولى والثانية من ويلات، ولم ترافقها حلول للمشكلات الكبرى التى ظل يعانى منها المنتصر فضلاً عن المغلوب، كما بقيت الإنسانية تعانى مشكلات الجوع والفقر والجهل والمرض من جهة، وتردى البيئة وجنون التقدم التكنولوجى والمادية المفرطة من جهة أخرى. وقد عرف العالم فى هذا المجال نظريتين هما: ما قدمه روجيه جارودى فى كتابه: (من أجل حوار بين الحضارات) والصادر سنة 1977 م، حيث حاول جارودى أن يوجّه نقداً قاسياً لسلوك الغرب فى تاريخ علاقته بالأمم والحضارات غير الغربية، وأن يدعوه إلى إعادة النظر إلى ذاته وإلى الآخر الحضارى من خارج محيطه الغربى والانفتاح عليه والتعلم منه ويعد هذه الدعوة واجبة، كما حاول أن يدفع الغرب إلى تشكيل رؤية مختلفة للمستقبل بحيث لا يجد الغرب فيه ذاته فحسب، وإنما شراكته مع الأمم الأخرى على قاعدة أن يخترع الجميع مستقبل الجميع، وقد ركز جارودى فى نظريته تلك على الأبعاد الثقافية والأخلاقية والمعنوية. وفى المقابل ما قدمه صمويل هنتنجتون فى كتابه (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى) والصادر سنة 1993، الذى أراد أن يكون صدام الحضارات هو منظور الغرب إلى العالم، وقد ركز فى نظريته على الأبعاد السياسية والتكنولوجية والعسكرية، وكان اهتمامه بمفاهيم القوة والتفوق والدينامية والتحالف، وقد رأى أن الغرب عليه إعادة النظر فى أنماط رؤيته وعلاقته بالعالم بقصد المحافظة على فرادته ووحدانيته، ومن ثم فإن مسؤولية القادة الغربيين تكمن ليس فى محاولة فهم الحضارات الأخرى والتعلم منها أو جعلها على صورة الغرب ومثاله، وإنما فى الحفاظ على الخصائص الفريدة للحضارة الغربية وحمايتها وتقويتها، وقد وضع هنتنجتون عدة مهام يجب على الولايات المتحدة والبلدان الأوربية أن تنجزها بغرض صون الحضارة الغربية. وقد عبّر القرآن عن التصور الإسلامى فى هذا المجال العلاقة بين الأمم والحضارات بمفهوم: تعارف الحضارات فى مقابل مفهومى حوار الحضارات وصدام الحضارات، وذلك من خلال قوله تعالى فى سورة الحجرات آية 13: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». هذه الآية جاءت لكى تبرز مفهوم التعارف فى العلاقة بين الناس كافة شعوباً وقبائل، واحتوت على مضامين مهمة تسهم فى تشكيل مرتكزات مفهوم التعارف بين الأمم والحضارات وذلك على النحو التالى:
إن القرآن الكريم هو خطاب إلى الناس كافة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» من دون أن يتحيز إلى أمة بعينها، ومن دون أن يفاضل أمة على أمة أخرى بسبب القوم أو العرق أو اللغة أو اللسان، وإن هذا الخطاب لم يأت للناس فى زمن من دون آخر، ولا لمكان من دون مكان آخر.
التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى «إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى»، فالإنسانية بكل تنوعتها العرقية والقومية اللغوية واللسانية، الدينية والمذهبية، وبكل تصنيفاتها الأخرى الاجتماعية والعلمية والاقتصادية إنما ترجع إلى أصل واحد، ويجب على الإنسانية أن تدرك هذه الحقيقة وتحكّمها بوصفها مبدأ فى نظرة كل إنسان إلى إنسان آخر، فالناس يجب أن ينظروا إلى أنفسهم ويتعاملوا مع بعضهم البعض بوصفهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض، وهذا المفهوم يعبر عن أعمق المكونات الروحية والأخلاقية فى الروابط بين الأمم والشعوب والحضارات.
إن التنوُّع والتعدُّد فى الاجتماع الإنسانى حقيقة موضوعية يؤكدها القرآن الكريم «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ» فالله تعالى بسط الأرض بهذه المساحة الواسعة لينتشر الناس فيها ويعمروها، وقد ارتضى الناس لأنفسهم هذا الانتشار بين ربوع الأرض على اختلاف ظروفها وطبيعتها، والتى تنعكس حتماً على طبائع الناس، كما أنه سبحانه منح الإنسان حرية الاختيار بين الأفكار والمعتقدات وغيرها وهذا يؤدى حتماً إلى التنوع.
وقد ربطت الآية بين وحدة الأصل الإنسانى، وبين التنوُّع الإنسانى وهذا الربط يفهم منه أن وحدة الأصل الإنسانى لا تعنى إلغاء التنوُّع بين الناس، الذى يقضى بأن يعيشوا شعوباً وقبائل، ومن بلاغة القرآن تقديم وحدة الأصل على قاعدة التنوُّع لكى يكون التنوُّع متفرِّعاً عن الأصل، كما أن استخدام لفظ «جَعَلْنَاكُمْ» يؤكد أن هذا التنوُّع هو مراد الله بمعنى أنه قدّر لهم ذلك برحمته وعلمه، وبالتالى من يرفض هذا التنوُّع كأنه يرفض قدر الله. ويؤسس القرآن الكريم مبدأ التعارف بين الأمم والشعوب والحضارات «لِتَعَارَفُوا» وهذا الاختيار فى الآية إنما يلفت إلى فاعلية مفهوم التعارف فى تحقيق التعايش بين الأمم والحضارات وإعمار الأرض فلم تقل الآية: ليتعاونوا، أو ليتوحدوا، أو ليتحاوروا، ولا ليتفرقوا، أو يتباعدوا أو ينقسموا، من بين هذه العناوين وغيرها جاء اختيار مفهوم لتعارفوا، فمن دون أن يكون هناك تعارف بين الأمم والحضارات، لن يكون هناك حوار ولا تعاون، والتعارف هو الذى يحدد مستويات الحوار والتعاون وأنماطهما واتجاهاتهما، كما أن التعارف له دور وقائى فى إمكانية إزالة مسبِّبات النِّزاع والصدام بين الأمم والحضارات، والتعارف هنا هو المعنى الأعم والأشمل لهذا المفهوم الذى يتجاوز الحدود السطحية المتعارف عليها، إلى ما هو أعمق من ذلك، ومن أبعاده أن تتعرف كل أمة وكل حضارة على مقدسات وأعراف وقوانين وإمكانات الأمم والحضارات الأخرى وقدراتها وثرواتها، إلى جانب معرفة الظروف والتحديات التى تحيط بهذه الأمم والحضارات.
و لم تلغِ الآية مبدأ التفاضل بين الناس وبين الشعوب والقبائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، فهو يعبر عن واقع موضوعى لا يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة، الذى حاول القرآن تغييره هو نوعية قيم التفاضل، بتغيير هذه القيم من قيم التفاخر بالأنساب والقوم والقبيلة والعشيرة والعرق، إلى قيم تربط الأمم والحضارات بالقيم الإنسانية العليا وهو المقصود من لفظ: «أتقاكم» الذى يرمز إلى منظومة القيم والأخلاق، فالعالم لن يستطيع أن يعالج أزماته ومشاكله عن طريق السياسة أو الاقتصاد فحسب الذى يضيفه الإسلام فى هذا المجال، مجال العلاقات الدولية هو إدخال منظومة القيم والأخلاق، وهذا من أشد ما يفتقده العالم المعاصر ويتضرر كثيراً من جراء ذلك، فالأحقاد والكراهية والبغضاء تحصل بين الناس وبين الأمم والشعوب، حينما تتمحور معايير التعامل والتفاضل فى إطار عالم مصالح الدنيا المادية بعيداً عن عالم مصالح الأخرة. ثم بينت الآية أن هذه المفاهيم هى الأفضل للناس فى سعيهم لعمارة الأرض وبناء الحضارة لأنها جاءت من عند الله الذى خلق البشر وهو أعلم بهم «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، إذا كان الناس فى شؤونهم العامة يرجعون لصاحب العلم والخبرة من البشر، فالله سبحانه وتعالى هو أعلم العالمين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة