فى مختلف أنحاء العالم تعد البلكونة بلغتنا الدارجة أو الشرفة باللغة الفصحى، مصدرًا من مصادر الجمال العام للمدن وبناياتها، فأشكال البلكونة خاصة فى المدن ذات التاريخ تعبر عن جمال المعمار، كما تعبر عن جمال المدينة ذاتها، فالبلكونة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فى منطقة فقيرة أو غنية، عادة ما تحمل إصاصات الزرع والورود، وإذا كانت المدينة تتمتع بجو مناسب فإنها عادة ما تضم جلسة، حسب مساحتها، لأهل البيت ليستمتعوا فيها ببعض الدفء أو النسمة العليلة.
وهكذا تعد الشرفات فى العالم وسيلة راحة وجمال لأهل الدار أو حتى للمارين العابرين فى المكان، أما فى مصر فالأمر مختلف، فالبلكونة أولًا تعد مكانا يكشف ستر البيت، فكانت بعض الطبقات قديمًا تغطى أسوار الشرفات بقماش يخفى سياجها، وكذلك كان الناس يعتبرون أن البلكونة مكان يمكن أن يكشف العورات، فإذا خرجت تطل منها النساء أو الرجال فيجب أن يكونوا مستورين، على الأقل شكلًا، ورغم هذا الستر المظهرى فإن البلكونة فى مصر بغض النظر عن حجمها ومكانها سواء فى منطقة غنية أو فقيرة هى مصدر قبح فى المدن، لأنها مكان توضع فيه المهملات والكراكيب، ولأننا فى بلد يكثر فيه التراب فإن بلكونة بيوتنا عادة ما تكون أكثر الأماكن اتساخًا.
وفى بعض الأماكن فى مصر تُستخدم البلكونة التى تعد أكثر الأماكن الظاهرة فى أى بيت كمكان مفضل للردح والخناقات بين الجيران فتقف إحداهن ويعلو صوتها بالتهديد والوعيد لكل المنطقة أو لبعضها، وقد ترد عليها أخرى فتلقى بالماء المتسخ على نفوخها. أو قد يقف رجل يسب آخر فى البلكونة ويتوعده دون أن يحرك قدمه لمواجهة، ولكنه يكتفى بالصياح من البلكونة.
ورُبَ قارئ يقول فى نفسه الآن «إيه يا ست هو أنت كاتبة مقال تحكى لى فيه عن تاريخ البلكونات والفرق بين شرفات مصر والعالم»، ولهذا القارئ أقول اصبر على رزقك فإن الأمر وإن كانت المقارنة بين شرفاتها وشرفات العالم ليست بأمر يجب إهماله، إلا أن ذلك ليس هدفى من كتابة المقال، ولكن خلاصة المقارنة أن الشرفات فى مصر مصدر قبح وقذارة رغم أنها الأكثر وضوحًا، كما أنها لدى البعض مصدر قلة أدب لو خرجوا فيها دون ستر أكثر من اللازم، رغم أنها كاشفة للمستور، فكل الغسيل بما فيه من ملابس داخلية لأهل البيت مفرودة على عينك يا تاجر، كما أنها مكان مفضل لدى البعض لفرد العضلات وإطلاق الوعيد وطولة اللسان.
ألا يشبه حال البلكونة المصرية ومن وما فيها حال مصر كلها الآن، فبعد أسابيع من الآن سيكون مر على مصر خمس سنوات بالتمام والكمال وكل شعبها كأنه يعيش فى البلكونة، فكلنا نتدثر أو نزعم أننا نستر أنفسنا، وكلنا على اختلافنا ننشر ملابسنا الداخلية جدًا فيها ونستمتع بمشاهدة ملابس جيراننا ونتحدث عنها بكل سيئ ولا نبالى، أو نلحظ أنهم أيضًا يروننا، وكذلك فجميعنا يتفنن فى وضع أسوأ ما فى بيوتنا وأقذره فى البلكونة ونحن غافلون عن القبح الذى يلفنا، والقذارة التى صارت ترتفع حتى أعمت عيوننا عن رؤيتها على حقيقتها فكأنها صارت واقعا نتقبله فى بلكونة كل واحد منا، ولا نراه إلا قذارة وقبحا فى بلكونة الآخرين، وعجبًا أننا لا نخجل أن نعلن ذلك لبعضنا البعض.
إعلامنا مجرد مثال لأحد البلكونات المصرية الذى يصرخ منه وفيه كل عابر سبيل، ويشكو منه القاصى والدانى وكأنه متفرد بالبذاءة والتفاهة والجرسة وفرد العضلات، وكأنها ميكروفونات وكاميرات تُدار بنفسها ولنفسها، فكل فرد فى هذه الدولة يشكو من قلة الأدب، وعدم مراعاة الخلق ولا الدين ولا المهنية فقل لى بالله عليك لماذا تتابع هؤلاء وتتناقل أقوالهم، وتناقش ما يروجونه من بذاءات، إلا لأنك بصورة أو أخرى تنظر لبلكونة غيرك وتغض الطرف عن شرفتك.
الحق والحق أقول لكم، مصر كلها جمعاء واقفة فى البلكونة بكل قبحها وقذارتها وسترها للعورات، فلا أستثنى أحدًا، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولا أملك إلا الدعاء، اللهم امنحنا بلكونة أخرى أو هد كل البلكونات.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الناقد احمد المالح
البلكونة