فى الريف العميق- على وزن الدولة العميقة- فإن لكل شىء أصوله وتقاليده، ولكل شىء «عازة» أى احتياج، بل كان لكل شىء طعم خاص غير متكرر.. وكنا نطلق لكل الحواس تقريبا وظيفة واحدة هى «الطعم» وحتى الملاحة الأنثوية والمتجاوزة لمقاييس الجمال نقول عليها «طعمة طعامة!!» أو نقول «كانت أيام لها طعم تانى»، وهو وصف مرتبط على ما يبدو بـ«الذوق» و«التذوق»، فالمرء يتذوق بلسانه وأيضًا بعينيه وأذنيه.. فاللوحة الجميلة تتذوق وكذلك اللحن البديع، كان الفلاح يحافظ على بهائمه مثلما أولاده، وكثيرا ما كنت أشاهد وأسمع بعض الرجال الأشداء من أهلى يذوبون حنانا وودا مع البهيمة ويكلمونها ومازلت أذكر بعض الألفاظ أثناء شد المحراث الثقيل الضارب بسلاحه الحديدى فى عمق الأرض الصلبة، وصاحبنا يكلم جوز الثيران اللذين يسحبان المحراث أو جوز البقر الإناث: «تعالى هو.. تعالى هو يا غالى.. أو يا غالية» أى تعالى هنا وهو يحدد الجهة بشد الحبل الواصل إلى رأس الحيوان. ثم يشخشخ بالقطع الحديدية الصغيرة الموجودة فى الحلقة التى تصل بين سوط «الفرقللة» وبين اليد الحديدية ليكون صوت الشخشخة بديلا عن الضرب المباشر، لأنه يعلم مدى قسوة نزول لسان الفرقللة على جلد البهيمة!
وكنا نعرف متى يتوقف الضغط على الحيوان أثناء العمل، لأنه إذا تم التجاوز فإن العواقب قد تكون وخيمة، كأن يحرن الحيوان ويثور وعندها لا يبقى ولا يذر ونعرف كيف نوجهه أثناء اقترابه من الترعة ليشرب، بحيث لا يغرز كثيرا بساقيه الأماميتين فلا يستطيع أن يتراجع، ثم كيف نعزم عليه للشرب أو لمزيد منه، حيث الصوت الملائم للجمل هو: «هوهو.. هوهوى» هاء مضمومة طويلا ومتصلة.. وللبقر والجاموس: «طرّى.. طارى.. طاررريه» من تطرية الجوف بالماء.. وللحمير والخيل يكون الصفير للتحريض على الشرب، ناهيك عن الأصوات التى لا تكتب.. ورددها الخواجة بيجو مع صديقة أبولمعة فى برنامج ساعة لقلبك- رحمة الله على أبى لمعة «محمود أحمد المصرى» وعلى بيجو.. الذى كان لقبه راتب!
وجاءت فترة كانت زريبتنا تعج بالبهائم، وكنا من أسر قليلة جدا تقتنى ذكور الجاموس «الفحل» وأكثر من جمل ولا نقتنى من الحمير إلا الإناث، وكان لذلك سبب يتعلق بقلة القيمة والمسخرة.. لأن ذكر الحمار لا يمكن السيطرة عليه فى مواسم التكاثر، وقد كتبت ذات مرة منذ فترة عن مشهد الرجل الوقور لابس القفطان والجلباب البلدى «الآخر ألاجة» وعلى كتفه العباءة الإمبريال ومعمم بعمامة رسمية، يعنى طربوش أحمر وزر أزرق وشال أبيض «ألوان علم حملة بونابرت الفرنسية» وكان من قرية مجاورة لبلدنا، وكان يسير راكبا حماره الذكر المطهم بلجام وبردعة مزركشة، وكان الموسم هو الربيع، حيث كل ما فى الريف متأجج للحفاظ على النوع.. فالجو تنتشر فيه حبوب اللقاح من النباتات.. وسائر الثدييات من ذوات الأربع وذوات الاثنتين يعنى البشر تتدفق فيهم الرغبة، بل وحتى الذى بدون أربع أو اثنتين أى يزحف على بطنه «الثعابين» تبدأ فى الخروج من مكامن بياتها الشتوى، وتخلع جلودها لتبدو كالشبك الأبيض معلقة بنبات الشوك.. وفيما ضيف قريتنا ماض بفخامة فى طريقه على حماره يوزع التحيات والسلامات، والناس تنهض نصف نهوض لتقول: «اتفضل.. اتفضل.. الشاى أهه»، فإذا بأتان مفعمة الأنوثة تمر بمحاذاة حمار عمنا، وفجأة يقفز الحمار ويبرز له طرفا رابعا وينهق ثم يسحب شهيقا وينفثه فى الهواء ورأسه ترتفع وشدقاه مع منخاره ينفتحان، والرجل فى حيص بيص لا يستطيع السيطرة على الركوبة وكان المشهد بالغ السخرية، والطرافة إذا أسقط الحمار صاحبه من على ظهره وركض ليلحق بالأتان- أنثى الحمار- الفاتنة.. ولذا كان الجمالون الأشداء يرفضون اقتناء الذكور ولهم تعليق واحد: «يغور فى ستين داهية.. بلا قلة قيمة». ثقافة ريفية منقرضة.. وامسكوا الخشب حفاظا على ذاكرتى التى لا أعرف كيف تسترجع هذا كله لمجرد أن أناديها: «تعالى.. هو.. تعالى يا غالية»!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
زمن جميل رغم صعوبته وعنائه - التلوث الان اصاب كل حياتنا حتى الفاكهه والخضر اصبحت غريبة الطعم
بدون