كعادتنا فى مناقشة القضايا والمواقف السياسية، تناولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإلكترونى بسخرية شديدة صور زيارة جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى لدولة جيبوتى وهو جالس القرفصاء فى أكبر مسجد بها، متحدثًا وسط مجموعة من الفتيات والشبان عن سماحة الإسلام وحوار الحضارات ومحاربة التطرّف والإرهاب.. فمنهم من أطلق عليه الشيخ كيرى ومنهم من قال مدد يا كيرى، أما الإسلاميون فى مصر فرأوا أن ما فعله جون كيرى هو من الغزو الفكرى للمسلمين، ويدل على تقصير الدعاة، وجهل المسلمين بدينهم، وطالبوا الأزهر ووزارة الأوقاف بالتدخل، وإدانة ما فعله وزير الخارجية الأمريكى.. وغيرها من التعليقات.
حقيقة، الأمر يثير الحزن على ما آل إليه أمر المسلمين، فالقضية تكمن لديهم فقط فى وجود "كيرى" فى المسجد، فلم يتحدثوا عن أبعاد تلك الزيارة ولا عن تأثيرها على مآلات الوضع الإقليمى، بل تناسوا أن الغزو الفكرى للمسلمين بدأ قبل زيارة كيرى بعدة عقود وأن هناك دلالات واضحة (غير الزيارة) تؤشر على تقصير الدعاة وجهل المسلمين بدينهم.
وبعيدًا عن النظرة السطحية لقرفصاء كيرى، فإن هذه الزيارة، التى تعد الأولى من نوعها، لا يمكن إخراجها عن سياق عاصفة الحزم ولا عن السيطرة الأمريكية على منطقة القرن الأفريقى، التى بدأت منذ عدة سنوات، حين وقعت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقا مع جيبوتى عام 2003 بتأسيس قاعدة عسكرية باسم " ليمونيه" تقع فى ميناء جيبوتى بالقرب من المدخل الجنوبى للبحر الأحمر، وتعد هذه القاعدة التى تفقد أحوالها كيرى المقر العسكرى الأمريكى الأهم فى القارة الأفريقية وتقع على مقربة من مسجد سلمان الذى ألقى فيه كلمته.
وبالطبع كانت ذريعة وجود القاعدة العسكرية الأمريكية مناهضة الإرهاب فى القرن الأفريقى، ولذلك حرص وزير الخارجية الأمريكية على التأكيد فى كلمته بالمسجد على أن الإسلام يرفض العنف والتطرف وهو دين السماحة، أى أن وجود الأمريكان فى القرن الأفريقى يتواءم مع المبادئ الإسلامية.
وفى ظل تطور الوضع الإقليمى وشن دول التحالف حربًا مكثفة على الحوثيين باليمن، ومع التهديدات الإيرانية لمضيق باب المندب الممر الاستراتيجى للملاحة العالمية تأتى أهمية زيارة جيبوتى، التى تقع قبالة هذا الممر الاستراتيجى الحيوى وتواجه حركة الشباب المجاهدين فى الصومال وتستقبل الأمريكان النازحين من اليمن، حيث قدمت السفارة الأمريكية المساعدة لأكثر من 500 مواطن أمريكى فروا من نيران اليمن.
إن زيارة القاعدة الأمريكية الأهم فى أفريقيا التى تنطلق منها الطائرات الأمريكية بدون طيار والمقاتلات لشن هجمات ضد الجهاديين فى اليمن والصومال، لها أهمية تتجاوز فكرة إلقاء كلمة فى مسجد أو كنيسة أو حتى معبد يهودى، وتقفز إلى ما هو أبعد، إلى المزيد من بسط السيطرة على المنطقة فى ظل أوضاع إقليمية متدهورة .
إنهم يخططون ويتقدمون ويعملون ويتمددون، ونحن نتكلم ونسخر ونطلق الشائعات... ونحلل "جلسة القرفصاء" ونطلق الشائعات، فليس بعيدا أن نقرأ فى الصباح خبرا يقول "عاجل.. جون كيرى يشهر إسلامه!".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة