فى أوقات الاضطراب والفوضى، وانفلات كل شىء، ينتخب الإنسان شخصا بعينه، ويبدأ تدريجياً الدوران فى فلكه، ثم وضعه فى مرتبة القدسية المعصومة من الخطأ، متوهماً أنه وجد ضالته المنشودة فى الخلاص من حالة الخوف والرعب من المجهول.
عند هذه النقطة يبدأ الإنسان التغاضى والتعامى عن علامات الاستفهام التى تحيط بمن انتخبه، وهو يتعرف ويقترب منه، ويصل إلى حد تكذيب عينيه التى ترى بوضوح أخطاء تِلْك الشخصية، ويكذب أذنيه التى تسمع الحقيقة المتناقضة مع الصورة المثالية المرسومة فى خياله، ثم يترجم مواقف تلك الشخصية، حسب هواه، وبطريقة تناسب ما يريد أن يراه هو، حتى لو كانت ضد العقل والمنطق والضمير.
هنا تنتقل الحالة من الإعجاب إلى (تأليه وعبادة الفرد) ويبدأ تفسير كل شىء ليناسب إلهه المصنوع بيديه، وصار يسمى الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، فالشر أصبح خيرا لأجله، والجهل حكمة، والفساد صلاح، وهكذا يدشن الإنسان أول خطوات الانفصال عن الواقع.
وإذا أسقطنا ذلك، على الواقع الذى نعيشه منذ 4 سنوات، وتحديدا منذ 25 يناير 2011، تجد المصريين منقسمين إلى فرق وشيعة، لم تشهد لها البلاد مثيلا من قبل، والانقسام قائم على (الشخصنة) دون النظر إلى الوطن.
هناك انقسام حول 6 أشخاص لعبوا أدوارا بارزة فى السلطة والمعارضة، وأصبح لهم مريدون وأتباع، ودين يبشرون به، ومعابد مشيدة لهم، وترانيم خاصة يترنم بها كل فصيل، ويحاول فرض رأيه ووجهة نظره، بعدة وسائل تختلف من مريدين إلى مريدين، ما بين الفرض بقوة السلاح والتفجير والتخريب، وبين التسفيه والتسخيف، والشتائم البذيئة، والتخوين، ونشر الشائعات، وإلصاق الأكاذيب والأباطيل بالخصوم، وأخيرا الاعتقاد بأن كل مٌريد يرى فى نفسه المالك الحصرى للحقيقة، وصك الوطنية.
الأشخاص الستة، المنقسمة حولهم مصر حاليا، مع التباين الواضح فى الشعبية، وأعداد المريدين من شخص إلى شخص، حسنى مبارك، محمد مرسى، عبدالفتاح السيسى، أحمد شفيق، محمد البرادعى، وحمدين صباحى.
بدأت موضة التأليه، بالبرادعى، الذى رأى فيه أتباعه الإله المنقذ والمخلص، رغم تساقط الأقنعة التى كان يرتديها، وصدمة عدد كبير من مريديه فى مواقفه المتناقضة، غير المبررة حيال كثير من القضايا، واختفائه عن المشهد فى اللحظات الخطيرة والحاسمة، والبعض يرى فيه المنقذ حتى الآن، وكان فى المقابل، دراويش مبارك المصابين بمرض (نوستالجيا) الحنين والبكاء على الماضى.
ووسط هذا التعبد البعيد عن المنطق والعقل، ظهر كل من أحمد شفيق، ومحمد مرسى، وانقسم ما يقرب من 30 مليون مصرى حولهما بالتساوى، إلا أن أتباع مرسى، وضعوه فى مرتبة القديس الذى نزل سيدنا جِبْرِيل من أجل نصرته فى ميدان رابعة العدوية، وظهر رسول الله، ليصلى خلفه صلاة الفجر فى مسجد رابعة، فى انفلات مرعب للجام العقل والانفصال عن الواقع.
وسط هذا كله، ظهر فى الأفق عبدالفتاح السيسى، ومن قبله حمدين صباحى، وحدث ما يشبه الإجماع الشعبى بالملايين حول السيسى، وبضع مئات حول صباحى، باعتبار السيسى المنقذ والمخلص فعليا لسفينة الوطن من الغرق، ويرى دراويشه، أنه أفعال لا أقوال، عكس كل الذين تصدروا المشهد طوال 4 سنوات، لم يقدموا إلا سلعة الكلام المنمق والمغلف فى ورق سوليفان ملون، لا يغنى ولا يسمن من جوع.
انتشار عبادة الأفراد، للأسف على حساب تغليب مصلحة الوطن، والتفاف الجميع حول رايته، وكارثة أن الفرد تحيطه هالة من القدسية، أكثر من قدسية الوطن، دون الإدراك لحقيقة ناصعة نصوع الشمس فى كبد السماء، أن الأفراد زائلون، والأبقى هو الوطن.
ولكِ الله يا مصر...!!!