حظى سيئ مع صلاة الجمعة.. إذ لم أتمكن أبدًا من ترويض سمعى وفهمى على عادة التفويت.. يعنى اترك الواعظ يقول ما عنده، وما عليك إلا تأدية الفريضة، واسمع مع السامعين وإذا لم يعجبك الكلام فهى دقائق أو بالكثير نصف ساعة فتحمّل وبعدها انصرف.. وإذا حانت الفرصة فابحث عن مسجد آخر! لم أتمكن، وكثيرا ما كنت أجلس على مضض مزمجرًا أو نافخًا متململا، أو مستغفرًا ومحوقلًا.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وأذكر - وكنت ما أزال طالبا بآداب عين شمس - ونصلى الجمعة فى زاوية بمنشية الصدر، أن أصر بعض الزملاء - وعلى رأسهم زميلى إبراهيم المغازى، رئيس قسم اللغة الفارسية وآدابها فيما بعد، رحمه الله رحمة واسعة- على أن نذهب لصلاة الجمعة بالمسجد الذى يخطب فيه الشيخ عبد الحميد كشك.. ووافقنا مساء الخميس، وما أن جاءت التاسعة صباح الجمعة، وفيما نحن فى أحلى نومة بعد سهر الخميس، أخذ زميلنا يطرق أبواب غرفنا: هيا لنذهب لصلاة الجمعة! وبعد صياح وسباب أدركنا أنه لا بد أن نتحرك لأن المسجد يمتلئ عن آخره ويفيض الناس من حوله لسد الشوارع.. والمهم ذهبنا، ووجدنا لكل واحد منا خرم إبرة داخل المسجد، وهالنى مشهد حاملى أجهزة الكاسيت الذين يتصارعون على توصيلها بمقابس الكهرباء.. وبعد ساعات أُذن للصلاة وأتى الشيخ الكفيف وصعد المنبر وصاح صيحته الشهيرة: هنا مدرسة محمد.. أبوبكر عن اليمين.. وعمر عن الشمال.. وأخذ يصيح ثم دخل فى الموضوع، وكان سياسيًا، ولم أرتح لكلامه، والناس تتقافز من فوق أعناق الجالسين، والجو كتمة فى مايو، ولم أستطع أن أستكمل على الإطلاق، ومن حسن حظى أن كان مداسى بالقرب منى فأخذته وقمت وبدأت أتقافز أنا الآخر لكن باتجاه الخروج، وعانيت طويلا حتى وجدت منفذا بالقرب من أسفلت الشارع.. ويا فكيك، وما حمانى إلا أن المصلى لا يجوز له أن يتكلم أثناء خطبة الجمعة.. والقصة بعد ذلك طويلة! وتكرر المشهد فى الإمارات، إذ أصر زميلى السورى بالجريدة، فؤاد زيدان، على أن نذهب لصلاة الجمعة فى المسجد الذى سيخطب فيه الشيخ زكريا بكار.. وهو فقيه سورى من الإخوان المسلمين طلق اللسان عالى الصوت يعشقه المستمعون.. وذهبنا وكان المسجد فى إمارة عجمان القريبة من الشارقة، وفى وقت مبكر وصلنا وشققنا طريقنا بصعوبة هائلة حتى جلسنا، وإذا بالشيخ يصعد ويبدأ ويدخل فى الموضوع مباشرة وكأنه كان يعرف بوجودنا فكلانا من القوميين والناصريين.. وأخذ عم زكريا يشتم فى القوميين والاشتراكيين.. وكله ماشى إلى أن أراد أن يبرهن على مدى غضب الله عليهم فقال: وشاء السميع العليم أن تنهزم مصر أمام اليهود فى ظل حكم عبد الخاسر فى 1967.
وكان معظم الحضور من المسلمين الوافدين غير العرب، أى باتان وبلوش من باكستان وأفغانستان وهنود وخلافه، ولا يفهمون شيئا مما يقال! وعندها لم أملك لا الانسحاب ولا الرد فى المسجد، وقمت وأنا أغلى.. وفى اليوم التالى كتبت فى مقالى اليومى أن زكريا بكار مجدد كبير فى العقيدة، وآخر اختراعاته أنه اخترع الاسم المائة لرب العزة- سبحانه وتعالى- فكان أن ضل وفسق بل وربما كفر لأنه أراد أن يسب جمال عبد الناصر فأسماه عبد الخاسر، فيما نحن تعلمنا أن لله سبحانه تسعة وتسعين اسما ليس من بينها الخاسر! وأكملت بطريقتى. وفى الجمعة التالية وقف صاحبنا على المنبر وكان نصف الخطبة الثانى عن الكاتب الأصفر المارق الفاسق فلان الفلانى الذى سيدخل جهنم.. ثم بدأ يدعو على العبد لله بتمزيق أوصاله وتيتيم أطفاله.. فيما المصلون غير العرب الذين لا يعرفون حرفا عربيا يقولون: آمين! ولم أفلته أيضا فى المقال التالى.. فما كان إلا أن توسط بعض العقلاء حيث اشترط هو أن أعتذر له كتابة فى الجريدة أولا وبعدها يمكن أن يفكر فى أن يغفر لى! ورفضت، وقلت إنه لم يخطئ فى حقى ولا حق عبد الناصر لكنه أخطأ فى حق ذات الله - جل وعلا - عندما وصفه بصفة ليست من صفاته! ولم ألتفت إليه ولا أعلم مصيره. أما المرة التى كدت أن أخسر فيها حياتى فكانت فى سجن الاستئناف فى مايو أيضا عام 1977 بعدما تغيب واعظ السجن الشيخ عبد الكريم إثر تعدى أعضاء تنظيم التحرير الإسلامى عليه ونحن جلوس معه فى مكتبة السجن.. وجاءت صلاة الجمعة وانتهى القرآن وغمزنى صديقاى سعيد بدوى وأبوبكر كيلانى المحبوسان معنا على ذمة قضايا أخرى، أن أصعد لخطبة الجمعة، وفعلا ربطت رأسى بمنديل وصعدت وألقيت الخطبتين، وفى الثانية تذكرت أن جماعة أخرى منعقدة للصلاة فى المكان نفسه- أى سجن الاستئناف- وهى خاصة بمجموعة حزب التحرير الإسلامى الذين ارتكبوا حادث قتل طلاب الكلية الفنية العسكرية، وكان يقودهم فى السجن سعيد دربالة، وبدأت فى الخطبة أفند وأنتقد انعقاد جماعة أخرى، وسقت كل الأدلة الفقهية، وما أن انتهيت منتشيًا والمساجين يسلمون ويقبلون وصعت للعنبر وإذا ببتوع حزب التحرير يهجمون على العبد لله ويصيحون: لم يبق إلا أنت يا فاسق لتنتقد جماعة المؤمنين! والتفت حولى، فلم ينقذنى إلا الأصوات التى علت من الطابق الثالث حيث الجنائيين أصدقائى أبوشفة وأبوسريع والكويتى وشلاضم وغيرهم: يللا يا بتوع الدقون.. إياكم واحد منكم يمسه.. ونزلوا متسلقين كامرات الحديد فاتحين المطاوى قرن الغزال وأنقذونى من علقة.. إلا أن الأمر لم يمر وكانت له ما تكملته فى أبوزعبل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى ناصرى
عبد الناصر