فى حكاوينا التراثية أن مستبدًا فاحش الثراء امتد ملكه حتى ظن أنه ملك الدنيا وما ومن عليها، كان لا يوقر كبيرا ولايعظم عالما ولا يرحم امرأة ولا يعطف على صغير، وكلما ثار الناس أطلق عليهم زبانيته ليقطفوا الرؤوس ويدمروا المعنويات، وذات مرة كان أحد الدراويش- ممن هانت عليهم الدنيا فلم يحوزوا منها ذرة غبار- ماضيا فى طريق سياحته الصوفية، واستبد به البرد فآوى إلى فتحة فى الزرع المحيط بقصر المستبد الثرى الظالم وغفا، وإذا بمن يوقظه بعنف شديد ويجذبه من قفاه، ووجد نفسه أمام الظالم إياه الذى سأله: ألا تعرف أنك اقتحمت قصرى ووطأت أرضى وأفسدت زرعى.. ألا تعرف من أنا؟ ورد الدرويش عن فوره: من ستكون.. أنت ككل الناس تأكل وتتبول وتتبرز؟! وصعق صاحبنا وأمر بجلده، وطرده، وإذا بالدرويش يقول له: خلاص.. لا تغضب.. اذهب وتناول طعامك ولا تتبول ولا تتبرز! ولم يمض يوم حتى أكل المستبد وملأ جوفه كالعادة بما لذ وطاب، ثم أصبح وأمسى وهو يأكل ويشرب، ثم شعر بالانتفاخ واحتباس البول والبراز.. وعبثًا حاول الأطباء فلم يفلحوا، ثم تذكر الرجل عابر السبيل وأمر بالبحث عنه فى كل مكان.. وأحضروه فسأله: ماذا تريد منى؟! ورد المستبد: أريد أن أقضى حاجتى فأنا سأموت.وضحك الدرويش قائلاً: لا سيدى لكل شىء ثمن.. إذا أردت أن تتبول فتنازل عن نصف ملكك؟ وقد حدث وتنازل، ثم أراد أن يفعل الأخرى فقال الدرويش: وهذه لا تقل عن تلك، إنها بنصف ملكك الآخر! وقد حدث! وصار المستبد الثرى الظالم خانعا جبانا فقيرا يتوارى من الناس، وعندها جاءه الدرويش وقال: ها أنت قد عرفت أن ملكك كله لا يساوى دفقة بول ولا حزقة براز! فهل آن لك أن تبحث عن أمر له قيمة لتستمد منه قيمتك؟! قد يظنها البعض مبالغات فلكلورية تهدف للعظة والاعتبار والتهوين من شأن الدنيا، بما قد يعنى بشكل غير مباشر الانصراف عن العمل وعن تكوين الثروات واقتناء الأصول.. وهذا أمر يؤدى إلى خراب العالم! لكن الوجه الآخر هو أن جوهر ما أراده الدرويش يكمن فى الحذر من أن يجمع المرء بين السلطة والاستبداد بها، والثروة والاستئثار بها، والقوة والبطش بها، فإذا ما كانت سلطة بغير استبداد وثروة بغير احتكار وقوة بغير عسف ولا ظلم كان الأمر مطلوبا بل مأمورا به ويأثم من لا يفعله، لأن أصل وجود الإنسان فى الأرض هو الاستخلاف «إنى جاعل فى الأرض خليفة».. والاستخلاف هو الإعمار وتكوين الثروة والأصول وتنمية كل شىء! وبعدها يأتى الانحراف «من يفسد فيها ويسفك الدماء»! ويحدث الجدل بين الخير وبين الشر.. أو بين الحق وبين الباطل وهلم جرا، والحسم فى كل ذلك هو بالعلم.. العلم وحده هو الذى يعدل مسار المستخلفين فى الأرض.. وهو أقوى وأكثر نجاعة من غيره.. لأن الله- سبحانه وتعالى- استخلف آدم وهو يعلم أن سلالته ستفسد وستسفك الدماء، وعلى الجانب الآخر كانت الملائكة التى تسبح وتقدس ولا تعصى للرحمن أمرا، واتضح أن الفيصل هو العلم «وعلّم آدم الأسماء كلها»! ولو عرف كل مستبد محتكر ظالم أن العلم- ومنه إلى المعرفة ومنها إلى الحكمة- هو الطريق الأوحد لتميز الإنسان على وجه الأرض؛ لأدرك أن كل ما يراكمه من سلطة ومن ثروة ومن جاه لا يساوى دخول المرحاض مرة واحدة! وربما كان من أشد المشاهد سخرية هو أن يصادفك مستبد صغير وتافه يدرك أنك وغيرك عرفتموه فيما كان لا يجد فرصة ليعلو صوته أو ينفذ أمره، وكان كما يقولون «يسأل الله حق النشوق» لكنك تصادفه بعد أن أخذ الركلة لأعلى «الشلوت» وقد انتفخ حتى صار وكأن أحدا يطبق على عنقه.. فلا تملك إلا أن تضحك من هذا المشهد الكاريكاتورى الذى إذا أردنا أن نضرب الأمثال الحية عليه فلن تكفى كل الصفحات.. ولكن «على إيه».. خلينا فى حالنا ورمضان كريم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
ما اكثر دراويش هذا الزمان الذين لا يتعظون الا بعد فقدان كل ما يملكون - الدوام لله وحده
بدون