كان الجيش في مصر القديمة هو الدرع والسيف الذي عمل على حماية منجزاتها الحضارية العظيمة من قوى العدوان والتخريب والهجمات البربرية، وكان هذا الجيش هو الحصن الحصين لمواجهة كل من تسول له نفسه الاعتداء على حدودها المقدسة، والحامى لأمن مصر من أى تهديد قد يواجهها، وتلك هى العقيدة القتالية التي ظل أمرها متوارثا جيلا بعد جيل فى ميراث العسكرية المصرية عبر القرون، منذ حرب التحرير ضد الهكسوس وحتى حرب أكتوبر 1973ضد العدو الصهيوني.
ومن هنا جاء موقف الجيش المصرى العظيم المساند والمؤيد والحامي لثورة الشعب المصرى العظيم فى (25 يناير 2011 ، وثورة 30 يونيو 2013) ليثير دهشة البعض ممن لا يعرفون طبيعة هذا الجيش وخصائصه، وممن يجهلون عقيدته، بل أن البعض ذهب إلى طرح الأسئلة حول طبيعة موقف الجيش، وهل هو "تكتيكي" أم "استراتيجي" وهل هو موقف أملته الظروف والملابسات على الأرض، أم هو موقف أصيل يتفق مع ثوابت الجيش المصرى ومبادئه التى تشكلت وترسخت وثقلت عقيدته على مدى آلاف السنين في صنع مظلة من الرعاية الاجتماعية الشاملة في كافة المجالات ، ما جعل المواطن المصري مطمئنا على قوته يومه ، آمنا في مسكنه ، وعلى أهل بيته ، طالما هناك عيون ساهرة على هذا الوطن.
نحن في العادة نسمع كثيرا عن إنجازات القوات المسلحة في الاكتفاء الذاتي النسبي من احتياجتها المعيشية، ولكننا في ذات الوقت لاندرك حقيقة البطولات العسكرية الخلاقة والمبدعة في القطاع الخدمي، والذي أصبح عنوانا بارزا للقدرة والكفاءة، ومع ذلك لايحظى إلا بالقدر الشحيح من الترويج الإعلامي الذي لايعبر بالقدرالكافي عن روعة الإنجاز من جانب القوات المسلحة المصرية في وقت السلم، تماما كما هو دورها المعروف في وقت الحرب.
ولعله حريا بنا أن نشعر ونتلمس جيدا أوجه تلك الخدمات المدنية التي تقدمها القوات المسلحة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد حاليا ، عبر مشاريع "الهيئة الهندسية" ، و"جهار مشروعات الخدمة الوطنية" ، " جهاز الخدمة المدنية ، وغيرها من مؤسسات ، عملت بشرف في تغطية الاحتياجات الأساسية للجيش، وطرح الفائض منها في الأسواق المحلية، بنصف ثمنها ، وهو ماسهم إلى حد كبير في كسر حدة الاحتكارات ، ورفع العبئ الأكبر من على كاهل المواطن البسيط في وقت الأزمات.
أقول هذا في ظل اتساع مساحة الجدل اليومي عن اقتصاد الجيش المصرى ومعايير تدخل الجيش في الحياة المدنية لصالح المواطن البسيط، فالملاحظ أنه يوما بعد يوما يزيد حجم الأكاذيب والأرقام المغلوطة، والتي ورد كثير منها نقلا عن صحف أجنبية ووكالات أنباء عالمية، نشرت مراراً أن الجيش يستحوذ على 40% من حجم الاقتصاد المصرى، وهى نسبة لا تستند لدليل علمى دامغ، ورغم أنها لا تمت للحقيقة بأى صلة فقد رددها مصريون، بينهم أكاديميون وسياسيون وإعلاميون ممن تسول لهم أنفسهم الدفع بأوطانهم نحو حافة الهلاك.
والبيانات الرسمية الصحيحة في هذا الشأن تؤكد أن القطاع الخاص وحده يسهم فى الناتج المحلى بنحو62% ، بما يعني أن النسبة المتبقية 38% هو مجمل ما تساهم به الدولة بقطاعيها المدنى والعسكرى، مع الوضع فى الاعتبار أن الشركات المدنية التابعة للمؤسسة العسكرية، نشأت بعد تحرير أسعار السلع، وبدء خصخصة القطاع العام الذى كان يمد الجيش بالأغذية والمواد اللازمة، لضمان توفير هذه المواد للجيش، وليس من أجل التربح، علما بأن هذه الشركات تخضع لكل النظم الضريبية والرقابية العامة فى أعمالها المدنية غير العسكرية.
ماسبق من حقائق طلت في رأسي وأنا أقرأ مقالا لـ "روزا بروكس" أستاذة القانون فى جامعة جورج تاون، والمستشارة السابقة لوزارتى الدفاع والخارجية الأمريكية، حيث كتبت مقالا بمجلة "فورين بوليسى" تحت عنوان : "البنتاجون" تحولت إلى "وول مارت" للأمريكيين، والذي تفخر من خلاله بجهود الجيش الأمريكي في الحياة المدنية قائلة: عندما جاءت والدتى إلى مقر وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" لتناول وجبة الغداء، رافقتها حتى وصلنا إلى المصعد لنعبر محل الشيكولاته حيث وقفنا، لأسمح لعدد من الضباط والمدنيين بالعبور إلى متجر بائع زهور الوزارة، والمصارف، وصالون الأظافر، وقاعة الطعام، فقالت أمى: "قلب القوة العسكرية الأمريكية هو مركز للتسوق؟". ولم تكن بعيدة عن الحقيقة.
وتضيف : مع بداية عملى داخل "البنتاجون" فى السنوات الأولى من حكم أوباما، كانت ممرات "البنتاجون"، التى يبلغ طولها 17.5 ميل، مليئة بالعشرات من المتاجر والمطاعم التى تخدم 23 ألف موظف. ومع مرور الوقت أصبح الجيش الأمريكى يقدم نفس خدمة "المول" لكبار السياسيين. فى "البنتاجون" يمكنك شراء حذاء جرى جديد أو يمكنك توجيه أوامر للبحرية للبحث عن قرصان صومالى، كما يمكنك شراء دواء للصداع، وشراء تليفون محمول جديد أو أن تكلف وكالة الأمن القومى لمراقبة رسائل الإرهابيين، كل ما تحلم به توفره "البنتاجون".
كلام السيدة "روزا"يبدو لي محيرا، ففي الوقت الذي لم يقرأ أي منا من قبل أية انتقادات للجيش الأمريكى، أو وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بسبب أنشطتها الاقتصادية في القطاع المدني أو غيره؟!، أو حتى رأينا صحيفة أو محطة فضائية واحدة تولى أى اهتمام لتلك الأنشطة الاقتصادية التى يقوم بها أى جيش من جيوش العالم؟!، نجد أنفسنا أمام كم هائل من الأرقام والمعلومات المغلوطة التي تثير الجدل حول بطولات الجيش المصري في الحياة المدنية!.. ألا يدعوا هذا للدهشة والتامل؟!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة