كان يلعب بالناس بأصابع يديه مثل العرائس الخشبية ويصنع لهم كل يوم مشاهد وهمية
كان يعلم من البداية أن حجم نجاحه فى العمل السياسى يتوقف على مدى قدرته على خداع الآخرين.. هو تربى على ذلك وحفظه عن ظهر قلب كما يحفظ عوام الناس قواعدهم البائدة «من جد وجد ومن زرع حصد». امتهنت عائلته العريقة السياسة واحترفتها منذ أجيال وعقود طويلة. الأمر أشبه بعائلات الصاغة أو الظاهر فى تجارة الذهب والقماش. ولكن التجارة هنا مختلفة فهى فى مصائر البشر لذلك امتلكوا ما امتلكوه من جاه وثروة وسلطة، ولأن لكل صنعة أو تجارة أسرارها فالخداع من أهم أسرار «الكار» السياسى، ورثها عن أبيه الذى أخذها عن جدوده الذين نقلوها عن عميد الأسرة وهو أحد كبار الولاة المماليك، ورغم أن الكل يعلم حقيقة المماليك وأنهم مجرد صعاليك وعبيد وحثالة المرتزقة فإن قدرتهم على الخداع هى التى أوصلتهم للقمة، وحتى الآن لم يفهم «عدلى بك الخازندار» كيف تعلم كل هذا وكيف اعتاد على مهاراته الخداعية بدون توجيه أو إرشاد، فنادرا ما كان يجلس مع أبيه المشغول دائما بشؤون الحزب أو البرلمان، يتذكر أحيانا طفولته ويفكر كيف أتقن وحده الدهاء وصياغة الحكايات للتأثير على الأطفال أو الكبار، ولماذا كان يختار أن يبدو فى منتهى الجبروت والقوة فى بعض المواقف أو يختار التظاهر بالضعف والهوان فى نفس المواقف مع اختلاف المصالح والرغبات. من أين أتته حيل التلصص والتملص والتضخم والتقلص؟ ومتى تعلم أن يسيطر حتى على عضلات وجهه ويغير ملامحه ونبرات صوته تبعا لكلامه وبإتقان. «السياسى فنان» كان يريح عقله بهذه الفرضية الهزلية حتى يرتاح ضميره وينام. وقد «ناااام» ضميره بالفعل وجمع من المال والنفوذ والسلطة أكثر بكثير مما حلم به أو حققه أبوه وجده، لم ينفلت أبدا من بين يديه اللجام مهما تقافزت الأحوال وتغيرت الوسائل والمهام فهو رئيس أكبر الأحزاب حينا ثم فجأة يصبح وزيرا ويقفز قفزة سحرية ويصبح رئيس وزراء، كان يلعب بالناس بأصابع يديه مثل العرائس الخشبية ويصنع لهم كل يوم مشاهد وهمية ويضرب هذا بهذا ويصنع فلان من علان، كان يعلم جيدا ما يجب أن يقال لإرضاء الرئيس وما يقال للعب بخيال الرعية، حتى حينما كان يضطر للنزول من المسرح كان يختفى لبرهة ويعود كمحلل استراتيجى أو خبير اقتصادى أو كأحد كبار رجال الأعمال.
لكن كل شىء انهار على رأسه فجأة، واكتشف أن الخداع الذى ولد فى جينات دمه خدعه هو الآخر، فالمصيبة جاءت من الوريث الوحيد، «ولى العهد» آخر نسل العائلة العظيمة والمتحكم من بعده فى كل ثرواتها، صغيره العبقرى الذى علمه فى أغلى مدارس العالم مع أولاد الملوك والمليارديرات وينتظر بفارغ الصبر تخرجه بعد شهور من جامعه هارفارد، حلمه الذى كان على يقين من أنه سيصبح وزيرا أو مسؤولا كبيرا أو كادرا سياسيا رفيعا.. تحول حلمه فجأة إلى كابوس.. فمع الاحتفالات العالمية بانتصار حب الشواذ الذى واكب حكم المحكمة العليا فى أمريكا بالموافقة على زواج المثليين، كان ابنه سليل الحسب والنسب والبيت العريق يعلن زواجه من زميله صاحب الأصول الأفريقية وينشر صورهما المتلونة بقوس قزح على شبكات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعى وهم يتبادلون القبلات الزوجية ويحتفلان بانتصار شذوذهما على العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة