الإحصاءات والأرقام التى وردت فى إعلان الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء قبل أيام تحتاج إلى وقفة متأنية من الوزارات والهيئات المعنية لتحليل دلالاتها ومعالجة أسبابها، فهى بلا شك تدق ناقوس خطر شديد على كثير من الأصعدة. ومن تلك الأرقام التعداد السكانى الذى شهد زيادة كبيرة تمثل خطورة شديدة إن لم يقابلها اطراد فى التنمية والاستثمار بشكل يحد من تفاقم خطورتها وأعبائها اقتصاديًّا واجتماعيًّا... إلخ. وقد أرجع بعض المتابعين والمعنيين هذه الوتيرة التصاعدية للسكان إلى عدد من العوامل التى أدت فى نهاية المطاف فرادى أو مجتمعة إلى هذه الظاهرة، ومن هذه العوامل فى نظرهم زواج القاصرات الذى ينتشر فى المجتمع وخاصة فى القرى والريف بشكل كبير كما بينت الإحصاءات الأخيرة.
وكعادة أصحاب الأهواء والأيديولوجيات بعد كل حديث رسمى أو غير رسمى يتناول قضية من قضايا المجتمع التى تتشابك أسبابها، فقد وجدناهم يحملون الشريعة الإسلامية أسباب تفشى هذه الظاهرة، ومن ثم كان ذلك صيدًا سمينًا أغرى بعض من يصطادون فى الماء العكر بإشعال موجة جديدة من الهجوم على الأزهر الشريف وتحميله مسئولية تفاقم الظاهرة، بدعوى أنه لم يكن حاسمًا فى ما يتعلق بحكم زواج القاصرات، وأنه يقف حجر عثرة دون تقنين هذه الظاهرة من خلال سن تشريع جديد أو تعديل التشريعات القائمة بما يحدد سنًّا معينة للزواج ويجرم زواج القاصرات!
ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن زواج القاصرات هو أحد أسباب الزيادة السكانية التى لا نشك أنها تمثل مشكلة حقيقية كبيرة، خاصة فى ظل وضع بلادنا الاقتصادى غير الخافى على أحد، لكن زواج القاصرات ليس السبب الوحيد للزيادة السكانية المتفاقمة، بل هناك أسباب كثيرة تتشابك معه لسنا بصدد تناولها فى هذه الزاوية.
وقد أخذت مسألة زواج القاصرات حيزًا كبيرًا من ساعات البث الفضائى ومساحات الصحف وصفحات التواصل الاجتماعي، وكأنها وليدة اليوم، على الرغم من أن الأزهر الشريف على لسان شيخه الأجل فضيلة الإمام الأكبر تناول المسألة وحسمها قبل أن تثار فى الآونة الأخيرة وتملأ الدنيا ضجيجًا وتكون ذريعة لاتهام الأزهر وعلمائه الأجلاء بالجمود وعدم مسايرة واقع الناس، وهو اتهام مردود ودعوى باطلة تفتقد - فى أقل تقدير - إلى الموضوعية والإنصاف.
ونقرر ابتداءً أن مسألة زواج القاصرات من المسائل الفرعية - بل هى من جزئيات الفرعيات - التى يجوز فيها الاجتهاد بما يناسب أحوال الناس ويواكب مستجدات الزمان والمكان، وهى من المسائل التى تدخل فى نطاق المباح من شريعة الإسلام، فلا يوجد نص يقطع بالوجوب أو المنع، وإنما عولجت المسألة فى إطار التشريع العام وهو الترغيب فى الزواج، وهو ما جعل الفقهاء يختلفون حول هذه المسألة، فمنهم من أجاز هذا الزواج ومنهم من منعه، بل إن من الفقهاء مَن جعل العقد فى هذا الزواج باطلًا لا يترتب عليه أى آثار شرعية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن مدار خلاف الفقهاء فى هذه المسألة هو زواج الفتاة التى بلغت سن الحُلم، فكيف بزواج الفتاة التى لم تبلغ سن الحُلم أصلا؟! لا شك أن منع الزواج فى هذه الحال غير مختلف عليه.
وفى هذا السياق، أثيرت بعض الشبهات التى منها زواج رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، من أم المؤمنين السيدة عائشة، رضى الله عنها، وهى صغيرة، فى محاولة للتأسيس على ذلك فى تجويز زواج الفتاة صغيرة، أو على الأقل الاستدلال بذلك على عدم جواز منع هذا الزواج. وهناك مَن اتخذ ذلك ذريعة للهجوم على الإسلام وتشويهه رسالة وتاريخًا، وقد لخص فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر تفنيده لهذه الشبهة بقوله: «إن زواج النبى، صلى الله عليه وسلم، بالسيدة عائشة، رضى الله عنها، تم فى إطار أعراف وقوانين المجتمع فى ذلك الوقت، وهذا هو المطلوب. والمؤكد والثابت تاريخيًّا أن النبى بنى بالسيدة عائشة بعد بلوغها سن الحُلم».
ومن ثم، فإن عدم وجود نص قاطع فى المسألة يُدخِلها فى نطاق المسائل الفرعية التى تقبل الاجتهاد فى إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وقواعدها الفقهية بما يدفع المفاسد ويجلب المصالح. ولا شك أن فى زواج القاصرات من المفاسد الشيء الكثير على مستوى الأسرة والمجتمع، وهو ما يجعلنا نقول مطمئنين بضرورة تقنينه؛ حيث إن كل ما كان مباحًا فى الأصل، فإنه يجوز تقييده إذا كان هذا القيد يحقق مصلحة، وهى قاعدة فقهية معتبرة، بل إن المباح يمكن منعه متى تبين إضراره، وهو ما يتفق مع التوجه العام للشريعة الإسلامية؛ حيث إنها تبيح النافع وتمنع الضار، مع الأخذ فى الاعتبار أن الممنوع بنص قانونى لا يعارض نصًّا شرعيًّا كالممنوع بالنص الشرعي. وعليه، فإذا ما سُنَّ تشريع جديد أو عُدِّلت التشريعات القائمة بما يحدد سنًّا معينة لزواج الفتيات ويجرم الزواج دون هذه السن؛ فإن ذلك يتوافق مع ما تقضى به المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية والقواعد الفقهية المعتبرة، ومنها: لا ضرر ولا ضرار، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وغيرها من القواعد.
المعوَّل عليه إذًا فى المباح من المسائل هو المنفعة، وليس هناك خلاف بين أهل الذكر وهم الثقات من الأطباء وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم فى أن ضرر زواج الفتاة وهى صغيرة أكثر من نفعه إن وجدت تلك المنافع، وهنا لا يسع الفقهاء والعلماء إلا القول بمنعه تطبيقًا للمقاصد الكلية للشريعة واستنادًا إلى القواعد الفقهية المعتبرة، بل إن هناك نصوصًا تدعم هذا التوجه، منها قول النبى صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل فى أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة فى بيت زوجها راعية وهى مسؤولة عن رعيتها، والخادم فى مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته»، فكيف بالفتاة الصغيرة التى هى أحوج ما تكون إلى مَن يرعاها ويوجهها ويقوم على شأنها أن ترعى زوجها وبيتها وأسرتها المستقبلية؟! ولا ينبغى أن يعترض معترض بمسألة زواج السيدة عائشة أيًّا كان العمر الذى تزوجت فيه؛ لأن اختلاف الزمان والمكان يؤثر بقدر كبير فى تكوين البنية الجسمانية والعقلية، فضلًا عن أن تغير نمط الحياة ثقافيًّا واجتماعيًّا يؤثر فى الأعباء الملقاة على عواتق الرجال والنساء، ومما لا شك فيه أن الأعباء النفسية والاجتماعية فى زماننا أكبر بكثير مما كانت عليه فى الصدر الأول للإسلام، خاصة فى ظل خروج المرأة للعمل وتحملها مسؤولية تربية الأولاد ومتابعة دراستهم ومراقبة سلوكياتهم، بل إنه فى كثير من الأحيان تجد المرأة نفسها محملة بأثقال رب الأسرة فى حال موته أو عجزه، وقطعًا هذا الكم من الأعباء الجسام لا يناسب طفلة هى إلى الرعاية واللهو أحوج منها إلى الزوجية والمسؤولية.
وعليه، فإن الأمر لا يحتاج فقط إلى حسم حكم هذا الزواج من الناحية الشرعية، بل إلى تضافر جهود المؤسسات المعنية على المستوى الدينى والتربوى والصحى والاجتماعى والثقافى والإعلامى والفنى، ومشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، والمجالس القومية المتخصصة، من أجل وضع رؤية شاملة وإستراتيجية مشتركة وتبنى برامج وأنشطة تهدف إلى توعية الناس وخاصة فى الريف والقرى بخطورة هذه الظاهرة على الأسرة والمجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة