أكد مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية أن تمسك تنظيم القاعدة باستراتيجية "مواجهة العدو البعيد"، ترجع في الأساس إلى سبب ظاهر وهو ترسيخ صورة التنظيم باعتباره "المدافع عن الإسلام والمسلمين والمتصدي للحملات الصليبية"، والسبب الخفي هو "خلق الحاضنة الشعبية وكسب التعاطف الجماهيري".
ولفت المرصد في دراسة جديدة تناولت خطابات التنظيم ومرتكزاته الفكرية، وذلك بالتركيز على استراتيجية "مواجهة العدو البعيد"، إلى أن تنظيم القاعدة قد ركَّز منذ نشأته على العدو البعيد وأعطى له الأولوية في ساحته القتالية، واستغل التنظيمُ معاداته للخارج في كسب شعبي في الداخل يوفر لهم بيئة حاضنة تساعدهم على عملية التجنيد واستقطاب أكبر عدد من المجندين لمقاتلة أعداء الإسلام. وعلى هذا الأساس بدأت فكرة التنظيم وعملياته الكبرى: من السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، إلى ساحل اليمن (عملية المدمرة الأميركية كول)، وصولًا إلى الضربة الكبرى "غزوة مانهاتن" في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001م.
وقد أكد ذلك وثائق ابن لادن المفرج عنها، فقد عكست تركيزه الشديد واهتمامه الخاص بالحفاظ على الحاضنة الشعبية وشعبية التنظيم حتى يستمر، وقد حذر أنصاره من أي خطوات قد تعمل على التقليل من تلك الحاضنة، وقد انتقد ابن لادن بشدة تبني وإفراط بعض الجماعات في مهاجمة "العدو القريب" في فترة معينة، مؤكدًا أن استهداف العدو القريب له الأثر السلبي الأكبر في إفشال الحركات المسلحة وإقامة الإمارة الإسلامية.
وشددت الدراسة على أن قادة تنظيم القاعدة ومُنظِّريه يدركون أن الإسلام بعيد عن استباحة دماء المسلمين وإراقة دمائهم وإهدار أموالهم وانتهاك أعراضهم، ومن ثم كان من الضروري للتنظيم إيجاد مسوغ ومبرر يقتات عليه ويستقي منه شهرته وتمدده، فما كان إلا استخدام خطاب نصرة الإسلام والمسلمين ومواجهة أعداء الإسلام، وصدَّر ما يسميه الحملات الصليبية المعاصرة، مدعيًا أن هناك حربًا ضد الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من العواصم الأوربية.
كما سعى منظرو التنظيم إلى وضع أسس ومنهاج شرعي يضلل به عناصره للإقدام على تنفيذ عمليات ضد الأجانب بشكل هستيري دون مراجعة للأصول الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين، ومن ثم عمل التنظيم على استحلال دماء الأجانب، سواء كانوا محاربين أم غير محاربين «مدنيين»، في وقت السلم أم في وقت الحرب.
ومن هنا عمل التنظيم على وضع وتبرير مجموعة من الفتاوى المرتبطة بذلك، أبرزها:
- فتوى إجازة إتلاف النفس من أجل المصلحة العامة من قِبل الظواهري.
- تدويل فتوى التترس التي وضعها ابن تيمية في غير موضعها وسياقها الاجتماعي والتاريخي.
- إجازة العمليات الانتحارية والانغماسية واستخدام العبوات الناسفة والمفخخات.
- فتوى استباحة قتل السياح الأجانب في بلاد المسلمين متجاوزين صيغ المعاهدات والأمان التي أعطيت لهؤلاء السياح في البلدان المسلمة.
- فتاوى استهداف مقرات البعثات الدبلوماسية الأجنبية والأممية الموجودة على أراضي الدول المسلمة، وقد شهدت السنوات اللاحقة عددًا من الهجمات الدامية ضد عدد من البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
- التحريض لاستهداف تجمعات الأجانب المدنيين في المناطق الرخوة مثل (المطاعم، المواصلات العامة، الأسواق العامة، المقاهي، الأماكن الرياضية) سواء في أراضي الدول الإسلامية أو غيرها، وذلك من حيث تعاملهم مع الآية القرآنية: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
وأضاف المرصد أن هذه الدعاوى الباطلة تناست أن الإسلام لم يدعُ إلى استباحة الدماء وانتهاك الحرمات بدعوى الجهاد، وإنما وضع للجهاد شروطًا وضوابط متى اختلت لا يعتبر فيها القتال جهادًا. فالجهاد- بمعنى القتال- هو في الأصل من فروض الكفايات التي يعود أمر تنظيمها إلى ولاة الأمور والساسة، فهم مسئولون أمام الله عن حماية وضمان أمن البلاد والعباد، وهم أقدر من غيرهم على معرفة مآلات القرارات المصيرية من حيث الموازنة بين المفاسد والمصالح بلا سطحية أو تهور.
ولو كُلِّف مجموع الناس بالخروج فُرادَى من غير استنفارهم مِن قِبَل ولي الأمر لتعطلت مصالح الخلق واضطربت معايشهم، وقد قال تعالى: ﴿وما كانَ المُؤمِنونَ ليَنفِروا كافَّةً﴾ [التوبة: 122]، ولقد عد جمهور العلماء من القدامى والمحدثين التوجه بالتحريض للقتال بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم سُلَّمًا للفتنة.
كما أكد المرصد أن الثوابت الرئيسية في الإسلام عملت على ترسيخ الالتزام بالعهود مع غير المسلمين في حالتي الحرب والسلم تحت مصطلحات عدة، منها: "الصلح، المهادنة" أو "الموادعة" ونحو ذلك. والمعاهدة التي تكون مع الدول غير الإسلامية مؤقتة بوقت أو مطلقة بدون توقيت هي معاهدة جائزة.
واختتم المرصد دراسته بالتأكيد على أن مثل هذه التنظيمات -وبالرغم من ادعاء القاعدة أنها تدافع عن الإسلام والمسلمين، وتحارب رءوس الكفر والحملات الصليبية- كانت البوابة الرئيسية التي جرَّت على المسلمين الوبال والتدخلات الخارجية وأوجدت موطئ قدم للأطماع الدولية داخل الدول العربية والإسلامية، وجعلت المجتمعات المسلمة عرضة للانتهاكات والتدخلات ومجالًا للأطماع، فضلًا عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين وإثارة العداء لهم في الكثير من دول العالم.