"عم محمود" ماسح أحذية، اختار منطقة وسط البلد لتكون منبره الذى يصل من خلاله إلى عشاقه البسطاء وجيرانه الباعة الجائلين فى نفس المنطقة، فيلتفون حوله وينصتون إليه مستمتعين إلى حكاويه عن الماضى والحاضر.
يأتى الرجل الستينى فى تمام الساعة الثانية ظهرًا، فيفتح صندوقه ويخرج أدواته التى يعتمد عليها فى عمله بداية من الصابون السائل المضاف إليه مادة الجلسرين لغسيل الأحذية، مرورا بالصابغات والفرش والقطع الأسفنجية وبعض الأقمشة، والأهم من ذلك "جراب" اليد الذى لا يمكن أن يبدأ عمله بدونه، فإنه يتفهم جيدًا مدى خطورة العمل بدونه على صحة يده.
يتناول "محمود" فطوره ويشرب كوب الشاى بالنعناع، وينتظر رزق الله له متمثلًا فى رجلًا يجلس بجواره ويخلع نعله ويسلمه له، ثم يبدأ ماسح الأحذية المثقف فى حكاياته، توجهنا إليه وتحدثنا معه عن مهنته وما هو السر وراء تلك المعرفة الواسعة وحب الناس إليه.
يقول "محمود" لـ"اليوم السابع": "عندما بلغت السنة الثامنة من عمرى بدأت فى تعلم تلك المهنة، فكان لى جيران يهود الديانة يونانيون الجنسية، تبنونى مهنيًا وعلمونى أدق تفاصيل المهنة، وعلى الرغم أنى كنت أحد أبناء مدارس الكاثوليك فى ذلك الوقت حيث كانت مدارس الطبقة الراقية، إلا أنى كنت متميز فى دراستى وعملى، وظللت على هذا التميز حتى وصلت للمرحلة الجامعية، وقتها عزمت على إثقال العلم بالمعرفة فبدأت أتناول العديد من القراءات المختلفة للكتاب المصريين والأجانب، وكان هذا حال جيل شباب الستينيات فكنا نتبادل الكتب ونعد حلقات لنقاشها، وكان أول إطلاع لى للكاتب طه حسين، ثم إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، يوسف السباعى، أندريه جيد، ألكسندر دوماس، كما تناولت بعض القراءات فى الأدب الروسى، كما أن دراستى فى علم الاجتماع والعلوم السياسية والعسكرية أثقلت معرفتى بالعديد من الثقافات المختلفة .
لم تقتصر ثقافة ماسح الأحذية على القراءات فقط بل أبدع فى كتابة وإلقاء الشعر فقال عن مصر" يا جميلة وكلك حب، يا زرعة الشوق فى القلب، نصيبى إنى أحبك، وغيرى جرح القلب، مولاى سبحانك غافر الذنب".
وقال عم "محمود" أنه شارك فى الكثير من العمليات أثناء فترة خدمته العسكرية، موضحًا أنه قابل العديد من أبطال مصر العسكريين الذين ضحوا بدمائهم فداء للوطن منهم الفريق محمد فوزى، وإبراهيم الرفاعى، والفريق محمد صادق، والفريق الجمسى، والفريق أبو غزالة، ومن المشاهير الحاليين فتحى سرور، مفيد شهاب.
واختتم عم محمود حديثه عن حبه للحياة، ورغبته فى اختيار عمله، فقال "الحياة ديمقراطية، والديمقراطية هى حضارة، والحضارة ثقافة، والثقافة معرفة، و المعرفة أحاسيس، والأحاسيس مشاعر، والمشاعر نبض قلب، ونبض القلب حب، والحب حياة، فلا يمكن أن نعيش بلا حب".
عدد الردود 0
بواسطة:
د. محمد عبد الرحمن
مليون تحية للعم محمود
مثال رائع للمصري الحقيقي متعكم الله بألف صحة وعافية