خالد عزب: بيار بورديو.. مناقشات عن الدولة

الإثنين، 26 مارس 2018 06:00 ص
خالد عزب: بيار بورديو.. مناقشات عن الدولة الدكتور خالد عزب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يعد بيار بوريو أبرز علماء الاجتماع الفرنسيين (1930- 2002 ميلادية)، درس فى جامعة السوربون ثم فى جامعة ليل، له مدرسة سوسيولوجية خاصة به ركز فيها على الممارسات سواء ثقافية أو سلطوية، صدر مؤخرا ترجمة للمحاضرات التى ألقاها فى المجمع العلمى الفرنسى حول الدولة، وترجمها باقتدار نصير مروة.

 

سؤال الدولة أو ماهية الدولة يبدو الآن حاضرا بقوة بعد رحيل بورديو بسنوات، فتساؤلاته زادتها التطورات فى السنوات الأخيرة حدة.

 

الكتاب يعكس خبرة بورديو عبر التقاطه طبيعة الدولة الفرنسية بصفة خاصة والدولة الغربية بصفة عامة، لذا نراه يصف الدولة على النحو التالى: "الدولة ليست كتلة، إنها حقل، الحقل الإدارى،  من حيث هو قطاع خاص من حقل السلطان أو السلطة، هو حقل أى أنه حيز ذو بنية منتظمة أو مهيكلة وفق تضادات ترتبط بأشكال من رأس المال النوعى،  ومن المصالح المختلفة، هذه التناحرات التى تدور فى هذا الحيز لها صلة ما بتقسيم الوظائف التنظيمية المرتبطة بمختلف الهيئات المقابلة، التعارض بين وزارات مال (تحصيلية) ووزرات إنفاقيه أو اجتماعية هى جزء من سوسيولوجيا كبار الموظفين العفوية، وما دام هناك وزارات اجتماعية، وسيظل ثمة شكل من الدفاع عن الاجتماعى وما دام هناك وزارة تربية وطنية، سيظل هناك دفاع عن التربية، ودفاع مستقل وإلى حد بعيد، عن خصائص من يشغلون هذه المواقف".

 

بيار أدرك فى محاضراته أن الدولة هى أساس التنظيم فى المجتمع، وأنها أساس المبادلات والتداول بما فى ذلك ما يفضى إلى النقاش العام فى المجتمع، هنا تظهر الدولة كمؤسسة تهدف إلى خدمة المصلحة العامة المشتركة، بينما تهدف الحكومة إلى مصلحة الشعب وخيره.

 

فلسفة بورديو كانت عميقة إلى حد كبير فى محاضراته حتى نراه يسبر غور الرأى العام فيتساءل: ما هو الرأى العام الذى يستشهد به خالقو الحقوق ومبدعوها فى المجتمعات الحديثة، المجتمعات التى فيها حقوق وقانون؟ إنه ضمنا رأى الكافة، رأى غالبية من يعتد بهم، والأكثرية ممن هم جديرون بأن يكون لهم رأس. هنا هو يسألك فى الرأى العام وكونه حيلة يتم اللجوء إليها أحيانا لصناعة رأى عام فعلى،  عندها يتم تكوين لجنة ممن هم أصحاب الرأى والخبرة، تدس اللجنة عبر عملها أجوبة عن مشكلات لم يطرحها المجتمع أحيانا، ولكنها طرحت عليه، هنا نرى بيار بورديو يذهب إلى أن وسائط الإقناع هى أحد أدوات الدولة فى إخضاعها للمجتمع، فمفهومه للدولة أوسع بكثير من مفهوم ماكس فيبر الذى جعله قائما على احتكار العنف المادى، بينما بورديو يقفز عليه إلى أن النظام العمومى أى الدولة يجب أن يستند إلى الرضى ضاربا مثلا برضوخنا للنظام العام فى العمل، فالعامل أو الموظف برضاه ينهض من نومه فى ساعة محددة يفترض به أنه قبلها طواعية، هنا تراه يصك مصطلح الزمان العمومى مستعينا بكتاب لوسيان فيعز الذائع الصيت عن رابليه، فهناك أشياء مهمة فيما  يتعلق بالاستخدام الاجتماعى للزمان، والضبط الجماعى للزمان، مما نعتبره الآن، مع ساعات الحائط التى تدق تقريبا فى الساعة ذاتها، وحيازة الناس جميعا ساعات يد أو حملهم لها، تحصيل حاصل، على الرغم من تغلغل الضبط الزمنى فى شتى مناحى حياتنا فالمواعيد والاجتماعات المحددة وأوقات العمل والإجازات والأعياد كلها فى الزمان العمومى وضرب من المحاسبة الزمنية، هنا يثبت بيار بورديو عن كيفية عمل الدولة وفعلها فى الفضاء العمومى هذا البعد الفلسفى مهم لفهم الدولة فى عصرنا، لذا نراه يجذر الدولة من عمق تاريخى فهو يرى أنه ليس مصادفة أن يكون ثمة صلة بين الدولة والإحصاء، يقول المؤرخون إن الدولة تبدأ مع إحصاء النفوس، ومع التحريات والتحقيقات فى شأن الأرزاق بمنطق ضريبى،  ذلك أن فرض الضريبة يقتضى معرفة ما يمتلكه الناس، فالمؤرخون ينطلقون من العلاقة بين إحصاء السكان والمأمور الرومانى الذى كان يضع التقسيمات.

 

هنا نرى بيار بورديو يقر أننا خاضعون لترميز الدولة، والدولة تحيلنا إلى كم أو كمية، بل إن لدينا هوية دولة. وبطبيعة الحال فإن بين وظائف الدولة وظيفة إنتاج الهوية الاجتماعية المشروعة، بمعنى أنه حتى لو كنا غير موافقين على هذه الهويات فى رأيه، فإنه لابد لنا من التعايش معها، من هنا فإنه يستخلص أن الدولة هى هذا الوهم ذو الأساس المكين، هذا الحيز الموجود أساسا بسبب أننا نعتقد أنه موجود، هذه الحقيقة المقررة والمصادق عليها عبر الإجماع، هى الحيز الذى نحال إليه: شهادات مدرسية، شهادات مهنية، الحقيقة الملغزة موجودة عبر مفاعليها وبفعل الاعتقاد الجماعي.

 

كان بيار بورديو فى رؤيته كان سابقا لعصره حينما أكد على أن التكنولوجيا وفى حقبته التلفاز صارت فاعلة سياسيا، فالدوائر السياسية أصبحت أكثر اتساعا من ذى قبل، ولو عاش بورديو إلى عصرنا وأدرك تصاعد شبكات التواصل الاجتماعى،  لجعلها أحد الفواعل الرئيسية فى الحيز السياسي.

 

عبر صفحات الكتاب سنرى بيار بورديو يرجع دائما لمكوناته المعرفية منذ أن عمل فى الجزائر بصفة خاصة، فعمله فى بلاد القبائل صاغ له فكرة رأس المال الرمزى التى هى فكرة مركزية فى أعماله، وعمله فى دراسة الفلاحين البيارينيين التى يفهم من خلالها الدولة السلالية وطريقة عملها، وهناك أخيراً التحقيقيات حول الوظيفة العمومية العليا التى قام بها أعضاء مركز علم الاجتماع الأوروبى تحت إشرافه.

 

تكمن أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، إلى أنه كاشف لقصور علماء الاجتماع العرب فى دراسة تجربة الدولة الوطنية العربية من منظور علم الاجتماع، وطرح تساؤلات عميقة حول أسباب فشل هذه الدولة، حتى فى حالات صارخة كاليمن حيث ما زالت القبلية غالبة على الدولة ومهيمنة عليها أو فى ليبيا حيث العبث فى مساحة العلاقة بين الدولة والقبيلة والحضر، وبين الدولة السلطوية التى لم تحقق أى قدر من التنمية لشعبها، بل فاعلية هذه الدولة ومدى تعبيرها عن مجتمعها.

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة