إيران هى الدولة الوحيدة فى العالم التى نظرت بارتياب وقلق وخوف من نتائج قمة سنغافورة التى عقدت مؤخراً بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون! فقد كان نجاح القمة أكثر ما يزعج ملالى إيران، الذين أصدروا قبلها رسائل تحذير غريبة إلى القيادة الكورية الشمالية ولكن هذه الرسائل لم تلق أى صدى لدى الزعيم الكورى الذى يبدو واضحا أنه درس خطواته جيداً لدرجة أنه أقال قبيل القمة التاريخية بأيام قلائل العديد من أركان نظامه، فى خطوة تعكس رغبة فى المضى قدماً نحو حوار مع واشنطن.
لم يكن كيم على استعداد للإصغاء لـ"نصائح" الملالى لأنه يدرك أنهم كانوا يقتدون به، وبسياساته فى مناكفة الولايات المتحدة والتمرد على القوانين الدولية، ومن ثم فإن الملالى غير مؤهلين لإصدار "نصائح" لقدوتهم على هذا الصعيد، لاسيما فى ظل التباين التام بين حالتى كوريا الشمالية وإيران فى التعامل مع الولايات المتحدة والنظام العالمى القائم.
صحيح أن كوريا الشمالية تزعج جارتيها كوريا الجنوبية واليابان بتجاربها الصاروخية والنووية ولهجتها العدائية منذ سنوات مضت، ولكنها لم تقدم مطلقاً على تصدير أزماتها إلى الخارج كما يفعل نظام الملالي، الذى ينشر ميلشيات حرسه الثورى فى العديد من دول المنطقة مثيراً للفوضى والاضطرابات فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن تدخلاته فى الشئون الداخلية لدول أخرى مثل مملكة البحرين وغيرها.
ذريعة ملالى إيران تكمن فى أن الرئيس ترامب لا يفى بتعهداته، وهذا بحد ذاته قمة الخطأ، لأن الرئيس الأمريكى تعهد منذ خطواته الأولى نحو البيت الأبيض بالانسحاب من الاتفاق النووى الموقع مع إيران لعدم قناعته بفاعلية هذا الاتفاق وتشككه فى جدواه وتحقيقه للمصالح الاستراتيجية الأمريكية، وقد أوفى بوعده رغم كل النقاشات التى جرت بينه وبين حلفاء بلاده الأطلسيين، فكيف لرئيس يفى بوعده أن يكون غير جدير بتوقيع اتفاق معه، أم أن الملالى يفهمون السياسة على شاكلة أخرى؟! أبجديات التفاوض تقول أن توقيع اتفاق مع رئيس بشخصية وسمات الرئيس ترامب يمثل ضمانة قوية للنجاح لأنه اثبت منذ وصوله إلى سدة الحكم بقدرته على الوصول إلى ما يريد وتحقيق أهدافه بغض النظر عن اعتراضات الآخرين، أليست هذه سمات وضمانات كافية بالنسبة للزعيم الكورى الشمالى لانتزاع اتفاق تاريخى؟
من المعروف أن الزعيم الكورى الشمالى يتمتع بدهاء سياسى، توارثه عن والده، وأنه يمضى وفق خطة استراتيجية مدروسة للانفتاح على العالم وتخفيف الضغوط التى يرزح تحتها اقتصاد بلاده، ويمضى فى سبيل ذلك وفق تكتيكات عدة تراوح بين التصعيد والمرونة، حيث يجيد توقيتات توظيف لغة التصعيد ثم يعود بعدها متجهاً نحو واقعية وخطاب مرن يحقق من خلاله نجاحات لبلاده، لكن الملالى الذين لا يعرفون سوى لغة العناد الشعبوية ولا يعرفون للمرونة التفاوضية والسياسية طريقاً يعتقدون أن العالم يمكن أن ينحنى استجابة لمطالبهم ورغباتهم وطموحاتهم التوسعية!.
فقدان الحليف الكورى الشمالى بكل ما يمتلك من أسرار وشفيرات النظام الإيراني، ناهيك عن دعمه المعنوى والتسليحى للملالى، يعنى الكثير والكثير لإيران، التى ظلت لعقود وسنوات طويلة تراهن على انشغال الولايات المتحدة بالتصدى للتهديد الكورى الشمالى، بحكم ما له من أولوية استراتيجية وخطر داهم على حلفاء واشنطن فى شرق آسيا ـ كوريا الجنوبية واليابان ـ لذا فقد أدرك الملالى أن التخلص من هذا التهديد يعنى بالتبعية تفرغاً أمريكياً لنزع خطر ملالى إيران والقضاء على ما يمثلونه من تهديد للأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط!.
يدرك الملالى أيضاً أن القوة الخشنة التى لوح بها ترامب قد لعبت الدور الأهم فى دفع بيونج يانج إلى الإسراع باللجوء إلى التفاوض، وأن امتلاك كوريا الشمالية للقوة النووية ووصولها إلى قناعة تامة بعدم حاجتها إلى مزيد من التجارب النووية والصاروخية، لم يكن السبب الوحيد للتوجه نحو الجلوس على طاولة التفاوض مع الجانب الأمريكي.الدرس الذى يجب أن يستوعبه نظام الملالى جيدا أن القوة العسكرية، أياً كانت، يجب أن تترجم إلى قوة سياسية، وأن تعزز القوة التفاوضية للدول، لا أن تستخدم فى الاعتداء على الآخرين وتنفيذ طموحات توسعية لا مردود حقيقى لها على الشعوب وعملية التنمية، باعتبارها تمثل استدعاء لطموحات استعمارية بائدة لهذه الأنظمة البائدة.وإذا كانت كوريا الشمالية كانت بمنزلة "الملهم" لنظام الملالى فى إيران خلال سنوات سابقة، فهى الآن تقدم لها نموذجاً جديداً يتمثل فى أن التنازلات هى السبيل للفكاك من قبضة العقوبات الدولية، والانعتاق من العزلة المدمرة للأنظمة، فتجربة العقوبات "الأقسى فى التاريخ" ستكون مثالاً لما سيطبق على إيران، والخروج من هذه العقوبات لن يكون له بوابة سوى تقديم التنازلات وفق قدرات إيران الحقيقية وليس قدراتها الدعائية، لذا فليس أمام الملالى سوى إعادة دراسة النموذج الكورى الشمالى بدلاً من هدر الوقت فى التمسك بأحلامهم والهروب من استحقاقات الواقع.·كاتب إماراتى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة