قد أقبل يوم عرفة، والجميع فى شوق وحنين له، فعرفة من أفضل الأيام عند الله، يوم تجاب فيه الدعوات، وتنحط فيه الذنوب والأوزار، وتقال فيه العثرات، ويباهى الله ملائكته بأهل عرفات، يوم عظم الله شأنه، ورفع على الأيام قدره.
يوم عرفة هو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، فقد روى البخارى ومسلم، عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية فى كتابكم تقرؤونها، لو علينا، معشر اليهود، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أى آية؟ قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا»، قال عمر: «قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذى نزلت فيه على النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة».
ومن فضائل يوم عرفة أن صيامه يكفر سنتين، فقد ورد عن أبى قتادة، رضى الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والسنة القابلة». رواه مسلم
وهو أيضا يوم العتق من النار، فعن أمناعائشة، رضى الله عنها، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهى بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء». رواه مسلم
قال ابن عبدالبر: «وهذا يدل على أنهم مغفور لهم، لأنه لا يباهى بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران، والله أعلم». الاستذكار «1/120»
ويقول ابن تيمية: «من المعلوم أن الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه». مجموع الفتاوى «5/374»
كما قال أنس بن مالك، رضى الله عنه، عن يوم عرفة: «كان يقال: فى أيام العشر كل يوم ألف يوم، ويوم عرفة عشرة آلاف». قال البيهقى: يعنى فى الفضل.
وهذه الزيادة فى الأجر تختلف باختلاف الصائمين فى الإخلاص، والتحفظ فى الصوم، فكل من كان أشد عملا وأكثر يقينا كان صومه أكثر ثوابا.
ويوم عرفة هو اليوم الذى أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان «يعنى: عرفة» وأخرج من صلبه كل ذريةٍ ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا َن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون». رواه أحمد
كما أن من فضائل هذا اليوم العظيم: أنه يوم إغاظة الشيطان، وتنزّل الرحمات وتكفير السيئات، ومحو الخطايا والزلات، مما يجعل إبليس مندحرا صاغرا، فقد روى مالك والبيهقى وغيرهما، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «ما رُئِيَ الشيطانُ يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أرى يوم بدرٍ. قيل وما رأى يوم بدرٍ يا رسول الله؟ قال أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة».
لذلك ينبغى أن نكثر من الذكر والدعاء فى يوم عرفة، ففى الموطأ عن طلحة بن عبيد مرسلا، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريـك له».
قال ابن عبدالبر فى «الاستذكار» «2/531»: «وجاء الاستدلال بهذا الحديث على أن دعاء عرفة مجاب كله فى الأغلب إن شاء الله إلا للمعتدين فى الدعاء بما لا يرضى الله».
والصالحون ممن سلف كانت لهم أحوال ممتزجة بين الخوف والرجاء فى الحج يوم عرفة، فقد وقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون وهو يبكى بكاء شديدا، حال البكاء بينه وبين الدعاء، لغلبة الحياء عليه، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: «واسوأتاه منك وإن عفوت».
وكذلك فعل مطرف بن عبد الله بن الشخير، رحمه الله، وهو من علماء التابعين ومن عبادهم، وقف فى عرفة مع «بكرٍ المزنى»، فقال أحدهم: «اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلى»، وقال الآخر: «ما أشرفه من موقفٍ وأرجاه لأهله، لولا أنى فيه».
ودعا بعض السلف بعرفة فقال: «اللهم إن كنت لم تقبل حجى وتعبى ونصبى فلا تحرمنى أجر المصيبة على تركك القبول منى».
وجاء عبدالله بن المبارك إلى سفيان الثورى، عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه فى عرفة، وعيناه تذرفان من الدموع، فقال ابن المبارك لسفيان الثورى: «من أسوأ هذا الجمع حالاً؟»، فقال: «الذى يظن أن الله لا يغفر له».
وأخيرًا: إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فى هذا اليوم فافعل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة