قلت فى مقال «حزب الوفد وعلاج «موزاييك» السياسة فى مصر»، إن الوفد يمكن أن يلعب دورا مهما فى سد ثغرات العمل الحزبى، وإنه مؤهل لأن يتصدر مشهد الحركة السياسية والحزبية خلال السنوات المقبلة، ويمكنه أن يقود هذه المسيرة التوحيدية لتنتهى أسطورة المائة حزب الحالية فى البلاد، وتتجمع القوى ذات الأفكار والبرامج المشتركة فى أربعة أو خمسة أحزاب رئيسية تكون مؤهلة للمشاركة فى السلطة، أو التعاون فى تشكيل الحكومات، وقيادة العمل البرلمانى على أسس وطنية حقيقية، وليس على فوضى «الكيدية السياسية والتمويل الخارجى وسلوكيات فئران السفن» التى نشهدها مع كل محنة تمر بها مصر.
وقد تلقيت مقالا مهما من السياسى القدير والقيادى الوفدى الكبير الأستاذ عصام شيحة يناقش ما طرحته، ونظرا لأهمية ما طرحه القيادى الكبير أترك المجال لمقاله كاملا:
المشكلة فى «الكبيرة»!
الصديق العزيز خالد صلاح كان قد أطلق «مبادرة»، منذ أسابيع قليلة، رأى فيها أن اندماجاً بين الأحزاب المصرية، وقد جاوز عددها المائة، يمكن أن يُثرى الحياة السياسية، وصادفت «المبادرة» تأييداً كبيراً من حزب الوفد، حتى أُعلن تبنيها داخل «بيت الأمة».
ووجدتنى فى حيرة من أمرى، فانتمائى لحزب الوفد قد جاوز عقوداً ثلاثة، وصلاح، صاحب «المبادرة»، يسألنى رأيى فى مقال تنشره «اليوم السابع»، غير أن خياراً غير الموضوعية، لا تتيحه لى أبداً المسؤولية الوطنية التى لا أشك أنها تجمعنا، وإن تباينت الرؤى، وعليه أقول:
- حركة المجتمعات يلزمها ممارسات «طبيعية» تشكل تراكماً حقيقياً، تختمر فيه تجاربها، وتنضج مُصححة من مسارها، والتجربة المصرية، فى طورها الثورى الأخير، 25 يناير و30 يونيو، ليتنا نعززها بكثير من الصبر والتروى، إلى جانب القدرة على استيعاب دروس التاريخ، ومن ثم فإن قراراً يصدر، أو «دعوة» تعلو إلى حد الإلزام، وتطعن فى وطنية وأهلية الرافضين لها، لهو أمر يعوق كثيراً مسيرتنا نحو الديمقراطية. ذلك أن الإلحاح فى «الدعوة» إلى اندماج الأحزاب يُثير غباراً ضاراً فى وجه مسيرتنا صوب دولة مدنية حديثة، إذ سيعتبرها البعض عودة غير محمودة إلى عهد المنابر الثلاثة التى أطلقها الرئيس السادات فى السبعينيات.
- تُشير التجارب، فى العالمين المتقدم والنامى، من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا، إلى الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا، إلى أن الاقتصاد مُحرك أساسى للسياسة، فمع نضج الاقتصاد وتنوع محاوره الرئيسة، تتشكل جماعات مصالح متباينة، تنشأ عنها أحزاب تعبر عنها وتتبنى مصالحها، وبمرور الوقت، وتراكم الممارسات، تختفى أحزاب، وتظهر أخرى، وتكبر أحزاب فتستوعب الصغير الذى يدور فى فلكها، وعلى هذا النحو تنشأ توجهات سياسية متنوعة قادرة على إدارة صراع سياسى صحى وحقيقى، لاحظ الحركة الاقتصادية غير المسبوقة تدرك أن مصر على الطريق الصحيح، فقط يعيبنا محاولات القفز على تجارب ما عاد يمكن التشكيك فى صحتها، أو تجاهل دروسها.
- كذلك لم تعرف الحياة السياسية فى مصر، قبل ثورة 1952، سبيلاً إلى اندماجات معتبرة بين الأحزاب، وبالفعل شهدت مصر، فى عز قوة حزب الوفد، أحزاباً صغيرة ضعيفة التأثير، مصر الفتاة، والديمقراطى، والشيوعى، وبمرور الوقت ذابت بشكل طبيعى، مثلما اختفت الأحزاب التى خرجت مُنشقة من رحم حزب الوفد، السعديين، والشعب السعدى، الأحرار الدستوريين، والكتلة الوفدية، والتى شكلت حديقة ملكية يلجأ إليها الملك إذا ما أراد إبعاد حزب الوفد عن الحكم.
- بشكل عام، لا تعرف الديمقراطيات الغربية الراسخة فكرة دمج الأحزاب، سواء بقرارات إدارية، أو دعوات «صارمة»، ولا ضرورة تحتمها هناك، إذ يُترك الأمر برمته للممارسة واختمارها ونضجها، إنما حدث فى أعقاب الحرب العالمية الثانية أن الأحزاب الشيوعية، فى بعض الدول التابعة للاتحاد السوفيتى، رومانيا والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، نجحت بمساعدة الاتحاد السوفيتى فى الوصول إلى السلطة، وظلت الأحزاب الأخرى موجودة لكنها ضعيفة، فدخلت مُرغمة مع استقلالها، فى جبهة وطنية مع الأحزاب الشيوعية الكبيرة المهيمنة على السلطة، كما نشأت أحزاب أخرى جديدة، ومع نضج التجربة، ونمو الوعى الديمقراطى، وتراكم الممارسات الديمقراطية، تلاشت هيمنة الأحزاب الشيوعية، ووصلت الأحزاب التى كانت صغيرة إلى السلطة.
- مشكلتنا ليست فى كثرة الأحزاب، فمعظمها لا حس له، ولا خبر عنه، ولا يصدر عنها ما يزعج أبداً، فهى نتاج انفجار سياسى طبيعى بفعل ثورة يناير وموجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، والممارسة كفيلة بتهذيب التجربة، وفى كل العالم نجد أحزاباً صغيرة هامشية، لا ضرر يُذكر منها، المشكلة حقيقة فى الأحزاب «الكبيرة» أصحاب الأصوات العالية، وافتقار النخبة فيها للعلم والقدرة والتجرد.
فيا عزيزى الصديق خالد صلاح، ويا حزبى العريق «الوفد»، دعوا الأحزاب الصغيرة، فهى أضعف من أن تسبب كل التشوه الذى تعانيه حياتنا الحزبية، المشكلة فى الكبيرة!
عصام شيحة
القيادى بحزب الوفد والمحامى بالنقض