لا شك أن انعقاد مؤتمر الإفتاء العالمى فى نسخته الخامسة فى القاهرة، هذه الأيام، بحضور علماء الأمة ومفتيها وقادتها، يعكس الدور الريادى الذى تقوم به مصر فى هذه المنعطفات والأحداث التى تمر بالأمة الإسلامية والعالم، وهذا الدور الريادى المصرى فى نشر قيم الوسطية والتسامح ومحاربة التطرف والإرهاب أمر تمليه التراكمات التاريخية والعلمية التى جعلت من مصر مركز العالم الإسلامى ومصدر الإشعاع العلمى والحضارى والأخلاقى.
أما عن المؤتمر فموضوعه الرئيس الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى، حيث تغيرت ثقافة المجتمعات والأفراد فى قضية قبول الخلاف وعمدت الجماعات المتطرفة إلى نشر ثقافة التحجر والجمود الأحادية الرأى والتوجه، وكانت الثمرة الحتمية لهذا الانحراف الفكرى شيوع عقائد التكفير التى لا تفرق فى الاجتهاد بين أصل ولا فرع ولا تحترم التعددية ولا تعترف بالتعايش بل بالصدام والمواجهة مع كل من يختلف معها فى قضية كبيرة أو صغيرة قطعية كانت أو ظنية.
ولا شك أن الأمة عانت كثيرًا فى مجابهة هذه الأفكار التى لا تمت إلى الإسلام بصلة، إن الثقافة الإسلامية الأصيلة والقيم الحضارية الراقية التى نبعت من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أكدت بشكل نظرى وعملى على اعتبار أن تعدد الآراء والأفكار أمر لابد منه وهو المكون الأساس للثروة المعرفية التى ذخرت بها مدونات العلوم الشرعية فى شتى فروعها عبر التاريخ، ولقد جاءت محاور المؤتمر لكى ترسخ هذا المفهوم.
فمن المحاور المهمة تاريخ إدارة الخلاف الفقهى حيث يعكس المحور أن الأصل فى حركة التطور والتراكم المعرفى لدى المسلمين احترام التعددية والاجتهاد المستند إلى قواعد وضوابط محددة تعارف عليها علماء الإسلام شرقا وغربا، وأثنى بعضهم على بعض ولم يكن الخلاف الفقهى يوما ما مثار تفريق للأمة أو سببا فى إثارة النزاع والشقاق بين المسلمين إلا فى الأزمان المتأخرة.
حيث انتشرت ثقافة الجماعات المتطرفة، ومن القضايا المطروحة للبحث تحت هذا المحور إدارة الخلاف الفقهى فى عصر الصحابة والتابعين، حيث يتناول البحث كيف احترم السلف الصالح نواتج الاجتهادات وتعدد الآراء، وقد استمر هذا حتى عصر نشوء المذاهب الفقهية وتبلور وتدوين المذاهب الفقهية المعتمدة ومن البحوث المهمة ضمن هذا المحور أيضًا إدارة الخلاف الفقهى فى عصور ما بعد الاجتهاد وهو يعكس كيف سارت المذاهب الفقهية على نفس درب السلف الصالح فى إدارة الخلاف الفقهى ولم تؤثر فى هذه المسيرة ظهور بعض بوادر للتعصب والجمود الذى لم يتجاوز الظاهرة الفردية.
وقد تضمنت بحوث المؤتمر أيضًا بحثًا بعنوان التجارب الحديثة لإدارة الخلاف الفقهى حيث تطور الاجتهاد الفقهى وتحول إلى الجماعية والمؤسسية، فى حين بقى أفراد التوجهات المتطرفة يغردون خارج السرب لا يحترمون المؤسسية ولا يعترفون بآليات وشروط وضوابط الاجتهاد لقد حرصت المؤسسات العلمية العريقة كالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية وهيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية وغيرها من المؤسسات فى العالم العربى والإسلامى على أن تكون امتدادًا صحيحًا ومتصلًا بمسيرة الأمة الإسلامية فى إدارة الخلاف الفقهى واحترام التعددية.
بينما حرصت الجماعات المتطرفة على اتباع مبدأ خالف تعرف فحاربت المؤسسات وحاولوا التشكيك فى العلماء بتشويه صورتهم أمام العامة والخاصة والعمل على تنفير الناس منهم، وقد باءت محاولاتهم بالفشل وترسخت الثقة بعلماء المؤسسات الدينية الثقات الأثبات وازداد النفور من منهج هذه الجماعات وتوحدت الأمة شعوبًا وأفرادًا حول علماء الوسطية الذين يحملون المنهج الصحيح الموروث عبر القرون الذى يمثل جوهر الدين وحقيقته.
إن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم من المؤسسات الحديثة الواعدة التى قدمت فى وقت قصير كثيرًا من الجهود من مؤتمرات ودورات تدريب للأئمة لإعدادهم فكريًا وعلمياً لمواجهة الأفكار المنحرفة، وأصدرت كثيرًا من الإصدارات المهمة كمؤشرات الفتوى العالمية وجمهرة المفتين فى العالم وغيرها من الموسوعات العلمية والإصدارت المهمة التى تعكس نشاطًا جادًا وملحوظًا لمواكبة التطورات ومواجهة التحديات والقيام بواجب الوقت.
كل الشكر والتقدير لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى دعم نشاط الأمانة ورعى مؤتمراتها العالمية وهذا يدل على تفهم السيد الرئيس لضرورة وحتمية الحل الفكرى والثقافى لمواجهة التطرف والإرهاب إلى جانب الحل الأمنى والعسكرى الذى تقوم به شرطتنا الباسلة جنبًا إلى جنب مع رجال الجيش المصرى حماة الأرض والعرض حماهم الله ونصرهم نصرًا مؤزرًا مبينًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة