مَثّلَتْ قضيّة الوعى وركائزها أحد أهم الدراسات التى تعرّض لها الإنسان فى مسيرة حياته؛ ذلك أنّ الوعى يؤثّر فى الواقع الذى يرتبط به الإنسان إيجابًا وهو ما يُعرف بـ«الوعى الصحيح»، أو سلبًا وهو ما يُعرف بـ«الوعى الزائف».
والوعى إدراك الحقائق على وجهها بعد إحاطة متبصرة بالواقع المعيش وما يدور فيه فى أبعاده المختلفة، وقد ركّز علماء المسلمين على وضع معايير مُعيّنة يمكن من خلالها أن نميّز بين تشكلات الوعى الصحيح وعكسه.
فى إطار ذلك وضع علماء المسلمين معايير لتنقيح الرأى المنقول «الخبر» تنقيحا يميّز بين الخبر الصادق والخبر الكاذب، كما وضعوا معايير لقبول ذلك الخبر مرتبطة بناقل الخبر ذاته، كالعدالة، والصدق والأمانة والضبط التام، فنشأ ما يُعرف بـ»علم الرجال» الذى تختص وظيفته بتمييز ناقلى الأخبار الصادقين من الكاذبين.
والذى دفعهم لذلك كثرة الوضّاعين والكذّابين والمُلفّقين الذين ابتليت بهم أمة الإسلام فى مسيرة تاريخها كله، وكان المنطلق لذلك هو أمر الله تعالى فى كتابه الكريم حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» الحجرات: 6.
يروى الطبرى فى تفسيره عن مجاهد، فى سبب نزول الآية الكريمة: أنّ النبى صلى الله عليه وسلم بَعَثَ الوليد بن عقبة بن أبى معيط، إلى بنى المصطلق، ليصدّقهم، فتلقوه بالهدية فرجع إلى الرسول، فقال: إن بنى المصطلق جمعت لتقاتلك».
فاطردت القاعدة الكبيرة التى تضمنتها الآية الكريمة «فتبيّنوا» أي: فتثّبّتوا، أنه لا يُقبل قول أحد فى أمر من أمور الدين والدنيا إلا إذا قامت الأدلة على صدق كلامه، ومن هنا سعى علماء المسلمين فى تصانيفهم إلى الاهتمام بـ«قضية الموثوقيّة والتوثيق» لكلّ ما يُذكر من الأخبار والآراء والأفكار قبل الحكم عليها بالقبول أو الرد.
ومن الأمثلة التى يمكن أن تُذكر فى سياق الكلام عن قضية الموثوقية نجد مثلا- علماء الحديث وضعوا، مجموعة من الشروط للحكم على الحديث بكونه صحيحا مقبولا.
منها: عدالة الراوى، الضبط التام، عدم الشذوذ، بل نجد الإمام الشافعى رضى الله عنه، يحدد معايير قبول الأخبار بقوله: «ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا، منها: أن يكون من حَدَّثَ به ثقةً فى دينه، معروفًا بالصدق فى حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام... بَرِيًّا من أن يكون مدلسا يحدث عن من لقى ما لم يسمع منه».
وهذه دقة متناهية فى التحرى فى الرواية للخبر ورثناها عن هؤلاء العلماء الأكابر قد لا توجد فى اهتمام الكثير من الناس فى وقتنا الحاضر.
كما أننا يمكن أن نلاحظ اهتمام العلماء بهذا المعنى فى قبول الأخبار هو ما ترسّخ لديهم من معرفة عملية أدّت بهم إلى إدراك أنّ الوعى الذى يتشكل بناء على الخبر سينبنى عليه فعل فى أرض الواقع، بل يمكن أن يكون الكلام حول حكم من الأحكام أو مذهب من المذاهب أو رأى من الآراء أو فتوى من الفتاوى بنقلٍ زائف تشكّل وعيًا زائفاً والعكس بالعكس.
فترى من كل ذلك اهتمامًا كبيرًا فى رواية السنة المطهرة، فتكون هذه قاعدة مطردة فى كل خبر ينقل إلينا، فتسود وتوجد لدينا المناعة من تقبل الأخبار الكاذبة ولا تكون هذه المناعة إلا بزيادة الوعى وتنميته، فثقافة تقبل قولا لآخر دون تثبت هى ثقافة مريضة تحتاج إلى تعديل فورى.ِ
وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة