"الحياة مليئة بالأشياء التي تبعد الكاتب عن الأدب".
الجملة السابقة ليست لي، ولكنها للكاتب التركي أورهان باموك (نوبل 2006)، في كتابه الجميل ألوان أخرى الصادر عن دار الشروق.
باموك الذي يرى أن الحياة تعطل الكاتب عن الكتابة والأدب، يكتب الأدب منذ ثلاثين عاما، ويرى أن الكاتب مثل مريض السكر يحتاج حقنة يومية من القراءة والكتابة، وأن الكاتب دون هذه الجرعة اليومية من القراءة والكتابة محكوم عليه بأن يكون "نصف ميت"، بشرط أن يكون الدواء من نوعية جيدة، فلا شيء يجعل القارئ سعيدا مثل فقرة مكثفة وعميقة في رواية أو الدخول إلى العالم الروائي والاعتقاد أنه حقيقي.
باموك يرى أن الحياة تتفنن في إقصاء الكاتب عن عمله ككاتب، رغم أنه طوال الثلاثين عاما التي عاشها ككاتب كان يقضي عشر ساعات يوميا وحده في غرفة مكتبه يكتب فقط، بخلاف وقت القراءة.
أنا شخصيا لم أستطع أن أحب روايات أورهان باموك، أعترف أنني فشلت تماما في قراءة القلعة البيضاء واسمي أحمر، ولم أحاول أن أبذل جهودا زائدة معه، ربما تكون المشكلة في الترجمة أو فيّ أو في الوقت الذي حاولت قراءته فيه، وربما تكون المشكلة لديه هو شخصيا، لكن قيمة باموك الأدبية ليست موضوعنا.
العلاقة بين الكاتب والحياة ونظرته إلى الكتابة هي النقطة المهمة والمثيرة، وتعامل الحياة نفسها مع الكاتب ووقوفها أمام حلمه الكتابي، ومحاولته مراوغتها حتى يصل إلى هدفه هي اللعبة التي لا يفهمها الكثير من الكتاب للأسف، ولهذا ليس غريبا أن يكون نجيب محفوظ الكاتب الوحيد الحاصل على نوبل لدينا، ينتمي إلى نفس النظرة لموقع الأدب من الحياة بصفة عامة، وموقع الكتابة من حياته بصفة خاصة.
الوقت والمهنة هي اللعبة، أنت كاتب إذن أنت موظف لدى الكتابة لابد أن تعطيها وقتا ثابتا يوميا، شريحة عريضة من حياتك، دون أن تسأل أبدا عن مقابل مادي، ربما يكون من حقك أن تسأل عن أنواع متعددة من المقابل المعنوي، وربما في وقت ما يأتيك مقابلا ماديا ضخما، لكن بما أنك ارتضيت أن تصبح كاتبا فأنت موظف متطوع لدى الكتابة، حتى إشعار آخر.
يقول باموك: إذا كنت مضطرا لقضاء فترة طويلة دون أن أتناول علاجي من الورق والحبر بسبب السفر مثلا، أو عدم دفع فاتورة الغاز، أو الخدمة العسكرية (كما كان الحال في يوم ما)، أو لظروف سياسية، أو أي عائق آخر أشعر بالتعاسة تترسب داخلي كالأسمنت، جسدي يتحرك بصعوبة، مفاصلي تغدو متصلبة، رأسي يتحول إلى صخر، حتى أنفاسي تبدو لها رائحة مختلفة.
للأسف الشديد ليس لدينا كتاب يتعاملون مع الكتابة بهذا الشكل، ليس فقط لأننا نتعامل مع الكتابة باعتبارها هواية لطيفة نمارسها في أوقات فراغنا، ولكن لأن ظروفنا المادية والاجتماعية ونظرة المجتمع إلى الأدب لا تسمح بذلك. أين هو الكاتب الذي يملك عشر ساعات يوميا يمنحها للكتابة والقراءة، وهو يعمل خارج المنزل 10، و12، و15 ساعة؟ السؤال هنا ينبغي أن يكون عن أدائه لواجباته الزوجية بانتظام وليس عن الكتب التي يقرأها يوميا أو عدد الصفحات التي ينجزها في عمله الجديد.
الوقت والمال والجهد طوال الوقت رغم أنها أشياء أساسية في وصول الكاتب إلى حلمه الكتابي، لكن الشرط الأساسي هو وجود "الكاتب" نفسه، الذي يملك الرؤية والموهبة والفنية التي لا تجعله يهدر وقته وماله وجهده خلف سراب الكتابة، ومجاذيب الأدب على مر العصور كثيرون.
كل الأمم تحلم بظهور كاتب كبير فيها، كاتب يقارب درجة الأنبياء يستطيع من مكتبه الضيق أن يؤثر في العالم، وأن يغير شيئا أو يضيف شيئا للبشرية إلا لدينا، فبمجرد ظهور كاتب موهوب تتضافر كل الظروف لقتله في مهده، وكأنه فضيحة يجب القضاء عليها. ولا أعرف أيهما ينبغي أن يتغير أولا: الواقع المحيط بالكاتب ويدفعه دفعا إلى إزاحة الإبداع إلى ذيل اهتماماته، أم الكاتب نفسه حتى يزيح هو كل مشكلات الواقع لينفرد بأوراقه ويضاجعها لينجب منها عملا جميلا.
في الحالتين نحن نحتاج إلى بطل وليس مجرد كاتب عادي، لكن ما يخفف المهمة الشاقة ويجعلها محببة هو أن الكتابة تستحق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة