أكد الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، أن الشريعة الإسلامية اهتمت بالشأن العام اهتمامًا كبيرًا عبر منظومة القيم الإسلامية ومبادئ الشريعة ومقاصدها العامة، كما اعتنت بالفرد وقررت حقوقه وواجباته، كذلك أولت عظيم العناية بشأن المجموع باعتبار أن ضبط هذا الشأن من أهم عوامل العمران في الدنيا والنجاة فى الآخرة.
جاء ذلك خلال محاضرة ألقاها المفتى بكلية الدعوة الإسلامية حول "ضوابط الفتوى فى الشأن العام"، حيث استهل فضيلته محاضرته لطلاب كلية الدعوة بتعريف ماهية مصلحة الفرد وكيف ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصلحة المجتمع، وأكد فضيلته أن أداء الفرد لوظيفته في هذه الدنيا وتحقيق مصلحته بحفظ نفسه وعقله ودينه وعِرضه وماله لا يتأتى إلا بضبط الأحكام الخاصة بشأن المجتمع؛ لأن انضباط المجتمع من أكبر المؤثرات على تحقيق مصلحة الفرد، كما تناول فضيلته التعريف بالشأن العام، مؤكدًا أن الفقه الإسلامى ثرى بالتأصيل العميق لفكرة إبراز شأن المجموع أو الشأن العام الذي يُعنى بكل ما كان من قبيل الأحكام التي تتعلق بالمجتمع والدولة مثل فقه أمن المجتمع وصحته وتعليمه وإدارته وطريقة حكمه وفقه منظومة الحقوق والواجبات العامة الشاملة.
وفى سياق متصل، قال المفتى: إن الإفتاء نموذج تطبيقي لعناية الشريعة بالشأن العام، ومن أكبر أمثلة عناية التشريع الإسلامي بالشأن العام الإفتاء؛ فإن الفتوى لكي تكون على المنهج الصحيح يجب أن تمر قبل إصدارها بمرحلة استبصار واعٍ لواقع الأمة ومشكلات المجتمع حتى لا تأتي في مجملها معزِّزة لروح الفردية أو تفوِّت مصلحة عامة في سبيل مصلحة فردية خاصة، كما أن الفتوى تختلف باختلاف تعلق الحكم بالفرد أو الأمة، ونجد أمثلة على ذلك في أفعال الصحابة تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الفقهاء أيضًا لم يغفلوا هذا الأمر فى مصنفاتهم، حيث يقول الشاطبى: (الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية).
وتابع: نجد هذا أيضًا فى تفرقة الفقهاء بين الفرض العينى والفرض الكفائي، مشيرًا إلى أن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة من ضوابط الإفتاء فى الشأن العام؛ هذا لأن التشريع الإسلامى الحكيم يرمى إلى صلاح الفرد وعموم المجتمع، ولكن إذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة عموم المجتمع تعيَّن تقديم المصلحة العامة؛ ومثال ذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحى أولًا لحاجة الناس ثم إذنه فى ذلك. وكذلك فإن جواز نزع الملكية الفردية مثال آخر لتقديم المصلحة العامة، حيث أمر عثمان بن عفان رضى الله عنه الساكنين المجاورين للمسجد ببيع دورهم المحيطة به من أجل توسعته للمصلين، وهذا يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق وإقامة المساجد وإنشاء المؤسسات العامة كالمستشفيات والمدارس ونحوها.
وفند المفتى ضوابط الإفتاء فى الشأن العام، موضحًا أن من أهمها "الموازنة بين المصالح والمفاسد" وأن النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، وأن الموازنة عمل دقيق يحتاج إلى متمكن من علوم الشرع مدرك لمآلات الأفعال، ليستطيع ترجيح المصلحة على المفسدة. وكذلك من ضوابط الشأن العام "مراعاة القوانين"؛ إذ قررت الشريعة أن للحاكم أن يتدخل من أجل مصلحة المجموع، ومن القواعد الفقهية أن (للحاكم تقييد المباح) و(حكمه يرفع الخلاف) وأن (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، فللحاكم تدبيرُ كثيرٍ من الأمور الاجتهادية وفق اجتهاده الذى توصل إليه بعد النظر السليم والبحث والتحرِّى واستشارة أهل العلم الأمناء.
كما ذهب المفتى إلى أن "مراعاة نشر الأمن المجتمعي" يعد من ضوابط الإفتاء فى الشأن العام، حيث يتحقق ذلك بتوجيه المفتى للمجتمع وعصمته من الفتن وصيانة عقائد الناس وشعائر دينهم؛ ودور المفتى فى تحقيق الأمن فى المجتمع يكون بمقاومة الغلو والتشدد الذى أصبح عائقًا أمام الدعوة الإسلامية، فضلًا عن أهمية مراعاة "مبدأ المواطنة" الذى يعد ضابطًا هامًّا من ضوابط الإفتاء فى الشأن العام، لكون المواطنة علاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق فى تلك الدولة. والحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية أمر واجب يتحتم على المفتى مراعاته.
وشدد فضيلة المفتى على أن الشأن العام من الأمور التى لا ينبغى أن يُفتى فيه إلا المتخصصون؛ لأنهم أكثر دراية بتأثير الفتوى على المجتمع عامة، وأقدر على استنباط الأحكام بما يتناسب مع مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.
وفى إطار ذى شأن، تناولت محاضرة مفتى الجمهورية مع طلاب كلية الدعوة "أهمية العمل المؤسسي"، حيث تناولت المحاضرة كيف أننا نعيش الآن عصر المؤسسية فى كافة مجالات الحياة، وأنه لا نزاع فى أن العمل المؤسسى خير وأولى من العمل الفردي؛ لأنه يقوم على الجهد المشترك، ولذا فإن المؤسسات الإفتائية المعتمدة هى الجديرة بالفتوى فى الشأن العام، لافتًا إلى عناية دار الإفتاء المصرية بقضايا الشأن العام، حيث وضعت الدار آلية للتصور الصحيح للواقعة وأثر الإفتاء برأى محدد فيها بالرجوع للمتخصصين ومناقشتهم واختيار الرأى الشرعى المحقق للمصلحة العامة، ضاربًا أمثلة من الفتاوى المتعلقة بالشأن العام، مثل إصدار دار الإفتاء فتوى بشأن البتكوين، وهى العملة الرقمية المشفَّرة؛ وأفتت بعدم جواز التعامل بها شرعًا لِمَا تشتمل عليه من ضرر على الأفراد والدول، كما يظهر ذلك أيضًا فى مراعاة فتاوى دار الإفتاء مبدأ المواطنة فى فتوى جواز تهنئة الأقباط فى أعيادهم ونحو ذلك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة