نحن نتجادل فيما إذا كانت هناك أهمية لوزارة إعلام، أو نقص فى برامج توك شو، هناك عالم يتشكل، ومنصات تطلق محتويات وأفكارا، وتتراجع الأدوات التقليدية للإعلام، أمام زحف منصات تصنع وتسوق أفكارا وتعيد صياغة الوعى، وبينما نبحث عما إذا كان التعليم هو وظيفة المدرسة أو البيت، تجرى صياغة عقول الأطفال والكبار من خلال شاشات لا يمكن منعها من البث طوال الوقت.
لقد أصبحت الثقافة والفنون فى أهمية الأكل والشرب، ويكفى نظرة على حجم ما يتم ضخه وتداوله من معلومات وأفكار وتسالى وترفيه، وتبثه الشاشات كل لحظة لنعرف أن الأمر صناعة مستمرة تسهم فى صياغة العقول والقلوب بشكل معقد، ولم يعد إنتاج الثقافة حكرا على الدولة، لكن هناك منصات متعددة منتشرة فى كل مكان تصنع عالما افتراضيا وطبيعيا متداخلا.
وفى نفس الوقت، فإن الثقافة والفنون سلع يمكن تسويقها وتدر عوائد، وهناك إنتاج ضخم اليوم للسينما والدراما يجتاح العالم، من خلال منصات استفادت ووظفت التطور التقنى والرقمى بشكل مضاعف، لدرجة أن منصة مثل نتفليكس نجحت فى منافسة شركات عريقة فى صناعة السينما والدراما، مثلما أطاحت التطبيقات الحديثة للسفر والسياحة بكيان ضخم مثل توماس كوك.
كثيرا ما يدور النقاش عما إذا كان للأسرة والمجتمع دور فى التعليم أم المدرسة وحدها، وكان هذا مطروحا قبل ظهور واتساع أدوات التواصل، واليوم يمكن أن يتم صياغة عقل وتفكير التلميذ بعيدا عن الأسرة والمجتمع والمدرسة من خلال تفاعله مع مجتمع افتراضى يقدم له المحتوى سواء كان تسلية أو تثقيفا أو حتى ألعاب تصل إلى حد توجيهه نفسيا نحو ارتكاب جرائم أو الإقدام على الانتحار.
فى السابق كانت المدرسة مع المجتمع مع التليفزيون والإذاعة أدوات للتعليم وبناء الوعى، اليوم هناك واقع من أدوات التواصل يتطور ويتسع، بشكل يجعل الحديث عن وسائل الإعلام والثقافة التقليدية، خارج السياق ما لم تستطع توظيف هذه الأدوات بما يساهم فى القيام بدور يتجاوز ما هو قائم.
كل هذا يجعل مهمة العمل الثقافى أكثر تشعبا، وتجعل هناك أهمية لأن يدرك القائمون على هذه المجالات على دراية بحجم التطورات التى تجرى فى العالم، خاصة أن القوة الناعمة أصبحت تتدخل فى صناعة المحتوى وفرض وجهات نظر، وتسويق الأفكار، وتخرج الثقافة من مفهومها التقليدى، وتجعلها مع الإعلام والتعليم قواعد لبناء الدول الحديثة.
وبينما يجرى الحديث عن القوى الناعمة يأتى الإعلام فى زمن تفرض فيه أدوات التواصل وتداول المعلومات واقعا متشابكا، تضع الثقافة والإعلام على رأس المجالات المهمة، التى لا تقل أهمية عن الصناعة والاقتصاديات الحديثة.
من هنا تأتى ضرورة التفكير فى بناء جسور يمكنها ربط حزمة الثقافة والوعى من خلال التداخل بين دور التعليم والثقافة والبحث العلمى، لأنها أجنحة لبناء الوعى والتفكير، فى عالم تسقط فيه الحواجز المعرفية، وإذا كان البعض يركز على الإعلام، فإنه فى النهاية شاشات لعرض المحتوى المنتج، والذى تصنعه عقول متنوعة.
القوى الناعمة لا تتركز فقط فى الإعلام وسط سيولة أدوات التواصل التى تفرض نفسها وأفكارها على الجميع من دون حواجز، والإعلام لم يعد فقط قنوات إخبارية أو برامج «توك شو»، وإنما محتوى متعدد يشغل الأوقات المتاحة للبث والتى تتنافس عليها منصات متعددة، مثل يوتيوب أو منصات التواصل، وعليه فإن الحديث عن أهمية بناء مشروع ثقافى يقوم على تفاعل التعليم مع الثقافة والإعلام مع التعليم العالى والبحث العلمى بحيث يتيح الفرصة للابتكار والإبداع وإنتاج محتوى، ربما تكون هذه التفاصيل معقدة، لكنها واقع يفرض نفسه، فى عالم يتم فيه تشكيل العقول والقلوب والأفكار والبيع والشراء، بشكل افتراضى حيث يجرى توجيه الرغبات عن بعد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة