تعلم الولايات المُتّحدة أن عقوباتها لن تحرم إيران من عوائد النفط. ما زال هناك مُشترون قادرون على الوقوف فى وجه واشنطن، وشراء إنتاج الغريم إغاظةً للوحش المُهيمن على العالم، وحتى لو فشل هذا المسار فإن مصانع تركيا الشرهة، وبوّاباتها المفتوحة على آسيا وأوروبا، تضمن للدولة الشيعية تأمين إمدادات مالية كافية للبقاء على قيد الحياة، بل وامتلاك قدرٍ من الوفرة يسمح بالصمود فى مُواجهة خَشنةٍ. فى كل الأحوال لن تموت آبار طهران، لكن واشنطن تتصوّر أن بإمكانها أن تحلّ محلّها.
بحسب مُؤشّرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية EIA قفز إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى 12 مليون برميل، احتلّت بها المركز الأول عالميًّا، ومن المُتوقَّع أن تنمو إلى 14 مليونًا خلال العام المقبل، وإلى 25 مليونًا تتفوّق بها على روسيا والسعودية معًا فى 2025. هذا النموّ مرهون ببقاء الأسعار فى مستوى 50 دولارًا للبرميل على الأقل، حتى تواصل الشركات الأمريكية استكشافاتها وتنمية أعمالها فى حوض بيرميان بين ولايتى نيو ميكسيكو وتكساس، وخليج المكسيك، و«باكن» بين مونتانا ونورث داكوتا. مع استمرار النموّ ورفع الكونجرس للحظر عن صادرات النفط قبل عدّة سنوات، ستدخل واشنطن بقوّة فى منافسة مع كبار المُصدّرين، لذا من مصلحتها أن تُحاصر إيران بتدفُّقاتها البالغة 4 ملايين برميل يوميًّا، مع الإبقاء على تخفيض «أوبك» لإنتاجها السارى منذ يناير الماضى بواقع 1.2 مليون برميل يوميًّا.
هذا الهدف يصبّ فى صالح «ترامب»، الذى يُراهن على الانتعاشة الاقتصادية الحالية فى تأمين بقائه داخل البيت الأبيض لأربع سنوات مُقبلة. لكنه يرى أن أداء الدولار المدعوم بنموٍّ يُلامس مستوى 4% بحسب مؤشرات 2018 و2019، وارتفاع الإقبال على أُذون الخزانة وجعل العملة الأمريكية ملاذًا مُنافسًا للذهب، وشريكًا فى حصّة كبيرة من النموّ العالمى، والقفزات الواسعة فى قُدرة السوق على توليد وظائف غير زراعية، كلّها تحتاج إلى مساندة خارجية واسعة المدى، جرى تأمين جانبٍ منها عبر حزمة الرسوم الحمائية فى مواجهة الصين وتركيا والمكسيك وعدد من دول أوروبا، ويُمكن تأمين قدرٍ أكبر من خلال تنشيط حركة التجارة، خاصّة صادرات الصناعات العسكرية، وفى ظلّ الأوضاع الاقتصادية بطيئة التنامى عالميًّا، يحتاج الأمر إلى طفرات درامية أو أحداث ساخنة، ترفع حرارة الأسواق، وتدفع العملاء ذوى القدرة الشرائية إلى تغذية الطلب على السلاح، وتلك الغاية يمكن تحصيلها من أسواق الخليج، لكن يتطلَّب الأمرُ شحنَ المنطقة للصعود بمخاوف دُولها الكبرى إلى الحدِّ الذى يضعها فى مضمار السباق على التسلُّح وتطوير القدرات الحربية.
إذن لا يعدو الصراع الحالى مع إيران كونه أداةً يجرى توظيفها اقتصاديًّا وسياسيًّا. وإذا كان «ترامب» يستهدف من خلالها تسويق مشروعه الاقتصادى للناخب الأمريكى بنجاحاتٍ وأرقام ملموسة، فإنه لن يُغامر بتبديد تلك الأحلام بالدخول فى مغامرة عسكرية غير محسوبة، فى الوقت الذى يُفترض أن يستعدّ فيه لإطلاق حملته الانتخابية فى سباق 2020. كلّ ما يسعى إليه الرئيس الأمريكى أن يُبقى على الأداء الاقتصادى فى مستوياته المزدهرة، إلى أن يصل الناخب للصندوق أو جهاز التصويت الإلكترونى، وأن يفتح أبوابًا مُستقبلية للنفط الصخرى والصناعات العسكرية، وأن يُوطِّد الرباط الذى يجمع دول الخليج بواشنطن، ويزيد المكاسب المُباشرة التى تقتطعها الولايات المتحدة من الفوائض المالية لتلك السوق الغنيّة، وبالنسبة له تحضر إيران كشريكٍ فى سيناريو مرسومٍ بدقّة، أو شخصيةٍ تلبس قناع الشرِّ بغرض دفع الدراما قُدمًا، وتوفير المُبرِّرات المنطقيّة لاستكمال الفيلم بشكل يُقنع الجمهور ويضمن بقاءه فى دور العرض لأطول فترة ممكنة.
يعلم الرئيس الأمريكى أن طهران تملك أذرعًا ووكلاء بإمكانهم شَحن المنطقة، ويتجنَّب بالتأكيد إثارتها تحسُّبًا لردودٍ مُفاجئة على أيدى ميليشيات الحشد الشعبى فى العراق، أو وحدات الحرس الثورى فى سوريا، أو الحوثيّين فى اليمن وحزب الله فى لبنان. بالتأكيد لا يستهدف البيت الأبيض إثارة المارد الميليشيَّاتى وإخراجه من قُمقمه. بينما على الجانب الآخر تخشى إيران من فكرة الحرب؛ لأنها ستُحدث شروخًا وتصدُّعات أشدّ وطأة على جدرانها ممّا تتسبَّب فيه اختلالات الاقتصاد الحالية، وقد يتطوَّر الأمر إلى استهدافٍ ساحقٍ لوكلائها الإقليميين، بشكلٍ يحرمها من تلك الأذرع وتأثيرها التفاوضى مُستقبلاً. الصورة بالنسبة للطرفين تُعنى أن الوصول إلى ساحة الحرب بمثابة إحراقٍ للمراكب وقطعٍ لخطوط العودة، وبالضرورة يحمل معه تورُّطًا فى خسارةٍ لن ينجو منها أحدهما، إذ ستتدفق المكاسب على الديمقراطيين فى الولايات المتحدة، وعلى المحور السُّنّى فى المنطقة العربية!
إذا جمعنا أهداف الولايات المُتحدة وإدارة «ترامب»، إلى جانب مُعادلة إيران الساعية للإبقاء على الأوضاع المُتوتِّرة فى حدودٍ محسوبة، مع قُدرتها على المناورة واحتمال العبور على الجَمر المخبوء تحت الرماد، يُمكنّنا توقُّع أن تسير الأمور بالوتيرة نفسها، مَحصورةً فى تصريحات ساخنةٍ وتصعيدٍ إعلامىٍّ، مع احتياطات شديدةٍ تَحسُّبًا للانزلاق العشوائى إلى صدام خشنٍ لا يُريده الطرفان. ما يُعنى أن الشهور الطويلة المقبلة، حتى الانتخابات الرئاسية فى خريف 2020 على الأقل، لن تشهد أيّة احتكاكات مُباشرة بين واشنطن وطهران، وإذا طال أَمَد المناوشات الناعمة إلى ذلك الحدّ، فمن غير المُرجّح أن يتطوَّر الأمر. إذ سيكون الفيلم الهوليوودى قد استكمل حَبكته وحقَّق أهدافه، فحقَّق مليارات الدولارات، ووفَّر التسلية والتشويق لملايين المشاهدين على امتداد العالم. وقتها ربّما يحتفل «ترامب» بالبقاء فى البيت الأبيض، أو يتكفّل الشارع الإيرانى بتقويض نظام طهران الهشّ، لكن فى كل الأحوال ستُفتّش هوليوود عن فيلم جديدٍ لملء شاشات الشرق الأوسط!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة