قد يكون من التبسيط اعتبار الموقف العالمى الناقد لـ«أردوغان» مُرتبطًا بانحيازه الراهن لجماعات العنف فقط، أو تسخين محيطه الإقليمى للهروب من أزماته الداخلية، أو حتى أنه يرتبط بالانتخابات الرئاسية «صيف 2018» وحدها. صحيح أن السباق شهد مُمارسات فجَّة، بدءًا من مُفاجأة الساحة بالدعوة لانتخابات مُبكِّرة فى غضون أسابيع، وتقويض تحرُّكات الأحزاب والسياسيِّين، إلى حدِّ أن أحد المُنافسين خاض السباق من داخل السجن، يُضاف لذلك تَعدُّد دوائر التضييق السياسى والإعلامى، وحصار المُراقبين المحلِّيين والدوليِّين، وصولاً إلى التخويف والرشاوى والتجييش، وحشد القواعد الشعبية والفقراء على أرضية طائفية تتصدّرها شعارات دينية واضحة، إلا أنه رغم كل تلك التفاصيل الرمادية فى مشهد تركيا الراهن، فإن الموقف من «أردوغان» أبعد من ذلك، على الأقل فى مداه الزمنى.
الرجل الآتى من خلفية دينية، حاول إيهام الجميع بالتخلّى عنها ودعم الوهم بتحالف مُبكِّر مع حزب قومىّ متطرِّف فى انتخابات 2002، ثمّ استمر على النهج نفسه وصولاً للانتخابات الأخيرة، بتحالفه مع حزبى «الحركة القومية» و«الاتحاد الكبير»، القوميَّين المُعاديَين للأقلّيات، لكنه فى الوقت نفسه يواصل مساعيه البطيئة لتديين الفضاء العام، والارتداد بتركيا إلى مرحلة ما قبل «أتاتورك»، ليس فقط بالغرق فى وحل الشعارات الدينية، واتخاذ قرارات عدائية ضد علمانية الدولة، لكن أيضًا بالإغراق فى خطابات القومية المعجونة بطموحات الخلافة والإمبراطورية، وقد تحدَّث الرجل فى أكثر من موقف وتجمُّع عمّا يعتبره «مجد تركيا القديم»، وهو بالضرورة يقصد ما يراه مجدًا فى سيرة «آل عثمان» المُلوَّثة بدماء ملايين الضحايا فى أرمينيا ومصر والشام والعراق وفلسطين، وحتى فى الأناضول نفسها.
القول إذن إن الخوف من «أردوغان» يتأسَّس على تلاعبه بالانتخابات، واغتصابه لحاضر تركيا ومستقبلها القريب بلعبة شمولية تأخذ طابعًا ديمقراطيًّا، قول مُغرق فى التبسيط. إيقاع التوجُّس من الرجل شهد ارتفاعًا كبيرًا بعد الانتخابات دون شكّ، لكن المؤكَّد أنه قائم ومُنتظم العزف منذ وقت سابق، وقد بدا الأمر جليًّا فى صيف 2016، مع التحرُّك المحدود لعناصر من الجيش، ما رآه الديكتاتور وحزبه انقلابًا، بينما لم يستبعد بعض مُعارضيه أن يكون لُعبة سياسيّة، ودعم هذا التصوُّر الذى بدا فى مطلع الأمر سطحيًّا أن «أردوغان» وظّف التحرك بالغ الهشاشة فى التنكيل بخصومه، فطرد ما يتجاوز مائتى ألف من المعلمين وأساتذة الجامعات وموظَّفى الدولة، وآلافًا من القضاة، وستة آلاف من الجيش، وبلغت جملة الاعتقالات 77 ألفًا من كل التيّارات، وفرض حالة طوارئ مُمتدَّة حتى الآن، وتتبَّع حركة «خدمة» التى يتزعمها صديقه السابق فتح الله جولن، وصادر مدارسها ومُستشفياتها ومؤسَّساتها الدينية والاجتماعية والخيرية، وأغلق عشرات الصحف والمواقع والقنوات التليفزيونية، واعتقل أو أبعد صحفيِّين محلِّيين ودوليِّين، وفرض حالة واسعة من الهيمنة على المجال العام، مدعومة بالقبضة الأمنية والمراسيم الاستثنائية والتدابير المُشدَّدة، والميليشيات التى كوّنها من عناصر مُنخرطة فى الحزب أو موالية له، تتمتَّع بقدرٍ كبير من التدريب والتسليح الجيِّدين، وتحوز صيغة شبه رسمية بإلحاقها على هيكل وزارة الداخلية، لتكون أقرب إلى ميليشيات «الباسيج» التى تقبض على روح إيران.
وسط تلك الأجواء من الغطرسة، لا يبدو أن الرجل يُخضع نفسه للقانون، على الأقل فى حدِّه الأدنى وما يخصّ النزاهة والشرف، فخلال السنوات الأخيرة تتواصل اتهامات الفساد بحق ولديه، خاصة «بلال» الذى تداولت الصحافة العالمية فضائحه المالية والتجارية، إضافة إلى جريمة قتل ارتكبها بسيارته وكانت ضحيَّتها مُمثّلة معروفة، ووصلت اتهامات الفساد للديكتاتور التركى نفسه، سواء على صعيد شبهات تطال أداءه محليًّا، أو إشارات قويّة لتورُّطه فى عمليات غسيل أموال؛ بغرض اختراق الحصار الاقتصادى والعقوبات المفروضة على إيران، وهو اتهام أكَّده رجل الأعمال وتاجر الذهب التركى الشهير رضا ضراب، فى أقواله أمام جهات تحقيق أمريكية فى قضية فساد تضم اسم «أردوغان» وسياسيِّين من حزبه، بجانب «خلق بنك» التركى، وعدد من الإيرانيين.
بين الغطرسة والفساد، أو ادّعاء الديمقراطية وإنتاج صيغة شمولية رجعية غايتها الارتداد بتركيا إلى سفالة العثمانيين وإجرامهم، أصبح «أردوغان» رئيسًا، بالطريقة نفسها التى أصبح بها رئيسًا للوزراء قبل ستّ عشرة سنة، واستتبّ أمره بالآليَّات وأدوات التحايل ذاتها. قدرٌ من المُناورة والميوعة، إضمار النوايا الحقيقية وإعلان ما يُمكن أن ينطلى على الناس، التلاعب بالقانون وتوظيف كوادر الحزب فى لعبة كَراسٍ موسيقيَّة، الصعود بالدستور ثم إحراقه، وادّعاء العلمانية والانفتاح بينما تتواصل خطّته بطيئة التغلغل فى مفاصل الدولة، لتحويل مآذن تركيا إلى حِراب، وقبابها خوذات، كما قال قبل عشرين سنة، لكن الأخطر فى كل تلك الرحلة، أن الرجل يرى نفسه أكبر من تركيا وشعبها، ويوظِّف إمكانات البلد وموارده لتحقيق تطلُّعاته الشخصية، وهكذا نام الأتراك فى بلد برلمانى واستيقظوا فى قالب رئاسى، وقد ينامون قريبًا وهم يهتفون باسم تركيا، ويستيقظون - قريبًا أيضًا - فى بلد اسمه «أردوغان».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة