13 بندًا وضعتها دول الرباعى العربى «مصر والسعودية والإمارات والبحرين» فى قائمة مطالب مُحدَّدة بمُهلة 10 أيام، حملتها الكويت إلى قطر فى 22 يونيو 2017، لكن الأخيرة لم تُبد موقفًا تجاهها، فطالبت الكويت بمدّ المهلة يومين، وافقت دول المقاطعة، لكن الدوحة استمرَّت على موقفها العدائى المُتصلِّب، حتى أعلن «الرباعى» فى 6 يوليو التالى انتهاء المُهلة وسحب المطالب.
رغم أن القائمة ضمّت أمورًا شبه مستحيلة على الإمارة الطامعة فى دور يفوق قدراتها المحدودة، أبرزها التوقُّف عن دعم الإرهاب، واتّخاذ موقف واضح من نوايا تركيا وإيران، وتحرّكاتهما المشبوهة فى المنطقة، فإن أوّل البنود كان أصعبها على الإطلاق، إذ طالب بإغلاق قناة الجزيرة، على خلفيّة خطابها الدعائى المُساند للإرهاب ضدّ دول المنطقة، ما كان يعنى حرمان الإمارة من أطول أذرعها، وما تظنُّه أكثرها تأثيرًا!
فى الوقت الراهن يبدو خطاب الجزيرة أكثر تحفّظًا عمّا سبق، ما زالت الإمارة تُوظِّف الشبكة فى ترويج رسائلها، دعمًا للحلفاء واستهدافًا الخصوم، لكنها قلّصت سخونة المحتوى ومباشرته الفجّة، لصالح توسيع مدى الترصُّد الناعم والحروب غير المباشرة، ويُمكن النظر إلى الانعطافة النسبية فى مسارها وفق مستويين: الأول يتأسَّس على صدمة اهتزاز جدران الحلفاء فى تركيا وإيران، بصورة لم تعد توفِّر أمانًا مُستقبليًّا مضمونًا، أو شراكة يُمكن التعويل عليها، خاصة فى ظلّ اصطدام أردوغان بالإدارة الأمريكية، والعقوبات القاسية التى فرضتها الأخيرة على طهران، أما الثانى فيرتبط مُباشرة بتوجُّس قطر من تطوّر الأمور إلى مدى تصعب السيطرة عليه، وصولاً إلى صدام مُدوٍّ مع الدول العربية الكبرى، بشكل يضعها بين نارى الغضب العربى والأمريكى منها، ومن ممارسات حلفائها. وإلى جانب هاتين الرؤيتين يحتمل الأمر اتّجاهًا قطريًّا لحرث الأرض وتمهيدها للمُصالحة، فحتى لو لم تكن مُستعدّةً حاليًا لتكبُّد فاتورة رضاء الأشقاء وغفرانهم، فإنها لن تغامر بإبقاء كل الأبواب مغلقة حتى لحظة الانفجار وتعذُّر الإفلات من ألسنة اللهب!
القراءة السياقية لسياسات قطر منذ قرار المقاطعة قبل سنتين، تكشف خلخلة بعض مواقفها، واهتزاز دوائر العناد التى اجتهدت طويلاً فى رسمها وتأكيد حدودها، ومع تراجع الإمارة نوعًا ما فيما يخصّ تحرُّكاتها الإقليمية الفجّة، وانسحابها جزئيًّا من الدعم المُباشر للميليشيات فى سوريا وليبيا واليمن والعراق، لصالح اللعب من وراء ستار تتقدّمه اليدان التركية والإيرانية، يتبادر سؤال وجيه بشأن عدم ترجمة هذا التراجع، بالقدر والكيفية نفسيهما، فى مُدوّنة الجزيرة والمنصّات التابعة لها، رغم ما أشرنا إليه من اتخاذ الشبكة منحى مُحافظًا، بالقياس على انفلاتها وعربدتها السافرين بين 2011 و2017.
يمكن تفسير الأمر بارتباط الجزيرة وخطابها المُكرَّس له طيلة ثلاث وعشرين سنة، بشرعية النظام القطرى الحالى، وخطوط الدعم والإمداد الخارجية التى يتمتّع بها، بالعودة إلى تاريخ الشبكة سنكتشف أن تأسيسها تزامن مع انقلاب حمد بن خليفة على والده، وكان انطلاقها بمثابة تحوّل فى تحالفات بعض القوى الدولية ونقاط ارتكازها فى المنطقة، بمعنى أوضح شاركت «الجزيرة» الأمير السابق، وابنه من بعده، فى شرعية الحكم، وتشابكات العلاقات التى وفّرت للإمارة فرصًا واسعة للتحرّك عالميًّا وإقليميًّا، ومهّدت الأرض لامتلاكها قواعد حلفاء وموالين من ميليشيات اليمين الدينى الصاعدة فى المنطقة.
بدأ المشروع الذى أفضى إلى تدشين الجزيرة، بشراكة بين لندن والسعودية فى إطلاق تليفزيون عربى تحت شعار هيئة الإذاعة البريطانية BBC. كان ذلك مطلع العام 1992، وبعدها بسنتين أُغلق القسم بسبب اعتراض الرياض على سياسته التحريرية، وبعد أربعة عشر شهرًا من الإغلاق انقلب حمد بن خليفة على أبيه، فانحازت المملكة للأب المغدور به، بينما فتحت بريطانيا قناة اتصال مع الأمير الجديد.
وقتها كانت BBC تُجهّز استوديوهات وهيكلاً تنفيذيًّا لتطوير القسم العربى، وبفضل خلفيتها الأمنية وهيمنة الاستخبارات البريطانية MI6 عليها، بتاريخها فى تأسيس وإدارة جماعات اليمين الدينى، بدءًا من الإخوان وفروعها العربية، وعلاقة «حمد» بالجماعة ومساعيه لتوظيفها وباقى الجماعات الإسلامية كورقة ضغط ومناورة للتوسُّع إقليميًّا، توصّلت لندن والدوحة إلى صفقة، اشترت الأخيرة بموجبها تجهيزات القناة الجديدة، ليتأخّر إطلاق تليفزيون BBC إلى حدود العام 2008، بينما انطلقت الجزيرة فى نوفمبر 1996.
لم تنقل لندن لقطر الأجهزة والاستوديوهات فقط، وإنما نقلت معها باقة من الإعلاميين المُختبَرين والمُجازين أمنيًّا. صحيح أنهم كانوا مُتمكّنين وضمنوا للقناة الوليدة حضورًا وتأثيرًا واسعين منذ انطلاقها، خاصة مع مساعدة MI6، وتأمينها وصول بعضهم للقاعدة ثم تنظيم الدولة الإسلامية لاحقًا، إلا أنهم مثّلوا اليد العليا فى إعداد سياسة الشبكة، والرقيب عليها، وترسَّخ الأمر حتى أصبحت الجزيرة رهن إرادة الآباء المؤسِّسين فى لندن.
فى السنوات التالية استُخدمت القناة كأداة صراع بين القوى الغربية. بالتحديد وظّفتها لندن فى التحرُّش بالولايات المتحدة ورفض وصايتها وإرسال إشارات مزعجة لها، وتأكّد ذلك مع قصف الجيش الأمريكى لمكتبيها فى كابول وبغداد، وتفكير جورج بوش فى قصف مقرها الرئيسى بالدوحة، إبان تنفيذ قواته عملية برّية فى الفلوجة العراقية إبريل 2004، بحسب مذكرة نشرتها «ديلى ميرور» البريطانية فى نوفمبر 2005، وهكذا مضت المناوشات بين لندن التى تدير الجزيرة، وواشنطن التى تعتبرها ذراعًا أمنيّة للاستخبارات البريطانية.
من المُحتمل أن تكون توجيهات تركيا أو إيران قد استُبدلت بوصاية لندن على الجزيرة، أو أن الأخيرة ما زالت تُوظِّفها فى دعم ميليشيات اليمين الدينى واستهداف الدول المُتشدِّدة معه. المُحصِّلة أن الشبكة القطرية تُدار من الخارج، بينما تسعى الدوحة وأميرها لتكييف تلك الإملاءات بما يناسب تطلعاته فى المنطقة، مُتصوّرًا أن بإمكانه وراثة القوى الإقليمية الكبرى بقناة تليفزيون تفوق إمارته شُهرة، ويُجبَر على تمويلها، كما لو كان يدفع جزيةً سنوية لمن يُربُّون الوهم تحت عِقاله وغُترته!