من المؤكد أن هشام عشماوى يحوز أهمية استثنائية لدى داعميه ومن يُموّلونه ويُوفّرون له غطاء المعلومات والدعم اللوجستى، ورُبّما بفضل تلك الأهمية عملوا على نقله إلى ليبيا، وإمداده بما يحتاج للانتشار فى مدن الشرق، لذا فإن اقتناصه وتصفية جماعته، ثمّ تسليمه لمصر، رِفقة مُساعده بهاء على، وحارسه صفوت زيدان، بمثابة التجفيف الكامل للدور الذى لَعبه، والحصار الشامل لحضور من أطلقوه فى المشهد.
اختيار الشرق الليبى قاعدةً لتمركز «عشماوى» ورجاله لم يأت من فراغ. تأسَّست تلك الرؤية على قُرب المنطقة من الأراضى المصرية، بما يسمح بتشكيل تهديدٍ دائم لمصر وحدودها ومصالحها، إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لمدينتى «درنة» و«بنغازى»، فى ضوء اتصالهما بالهلال النفطى، الذى يُمثّل الحصة الحاكمة فى تدفُّقات الطاقة وعوائد الثروة الليبية، لذا فإن ترافق القضاء على الميليشيات، مع إحكام سيطرة الجيش على المنطقة، بمثابة الضربة القاضية للمُخطَّطات الخارجية التى استهدفت إبقاء ليبيا فوق بئر بترولٍ مُشتعلة!
يمتدّ الهلال النفطى من الزويتينة شمال شرقىّ أجدابيا، إلى ميناء السدرة على الطريق الساحلى المُتّصل بـ«سرت»، ثمّ وسط وغربىّ ليبيا، مرورًا بالبريقة ورأس لانوف. وتضمّ المنطقة عددًا من الخزّانات ومُنشآت التحويل والتكرير، تُغذّيها حقول على مسافة تتراوح بين 300 و500 كيلو متر جنوبىّ «بنغازى»، أهمها السرير والمسلّة والنافورة وماجد والبيضاء، وتبلغ طاقة ميناءى السدرة ورأس لانوف وحدهما 600 ألف برميل يوميًّا من إجمالى صادرات لا تتجاوز مليون برميل. وبالنظر إلى أن 95% من موارد ليبيا تتولَّد عن قطاع النفط، فإن الهلال النفطى يشكل قرابة 60% من اقتصاد الدولة، ويضمن عوائد يوميّة تتجاوز 50 مليون دولار لمن يُسيطر عليه، وتلك التدفُّقات ظلَّت فى قبضة الميليشيات شهورًا طويلة بين 2011 و2016.
بدأت سيطرة الإرهابيين على المنطقة فى أكتوبر 2011، من خلال كتائب تُطلق على نفسها اسم «الثوّار»، وفى أغسطس التالى اقتحمته عناصر الإخوان بميليشيات «الدروع»، وبعد أقل من 5 شهور (يناير 2013) حلّ «حرس المنشآت النفطية» بقيادة إبراهيم الجضران محلَّها، وجمّدوا الإنتاج قرابة سنتين، حتى استعاد الجيش الوطنى بقيادة المشير حفتر المنطقة فى سبتمبر 2016، لكن «الجضران» جدَّد هجومه منتصف يونيو 2018، قبل أن يستعيده الجيش كاملاً بعد أسبوع واحد.
عمليات استهداف الهلال النفطى نفّذتها ميليشيات تابعة للإخوان أو مُرتبطة بمراكز القاعدة وداعش فى شمال أفريقيا. وتلك المجموعات بكاملها مدعومة من تركيا وقطر وإيران، وبعضها حصلت على دعم إيطالى فى أوقات سابقة، بحسب اتّهام من النائب البرلمانى طارق الجروشى لـ«روما» منتصف العام الماضى، بالتورُّط فى إشعال الصراع فى حوض الهلال النفطى؛ لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية على حساب ليبيا.
بعيدًا عن مفارقة التقاء المصالح الإيرانية التركية فى ليبيا، رغم صراعهما على جبهتين مُختلفتين فى سوريا، وعن دعم طهران لمجموعات «داعش» وغيرها من الميليشيات السُّنّية، رغم أنها تُحدِّد تحالفاتها على قاعدة مذهبية بالدرجة الأولى، فإن مساندة البلدين لعصابات الإرهاب استهدفت خلق بؤرة توتّر فى الشرق، والإبقاء على كامل ليبيا فى حالة رخاوة، بما يسمح مُستقبلاً باتّخاذها قاعدة انطلاق للنشاط فى السودان وتونس والجزائر، التى تشاركها الحدود وتشهد تقلبّات سياسية بين وقت وآخر. وكان طبيعيًّا أن تستهدف تلك الرؤية إبقاء الخلاف مُحتدمًا بين المكوّنات السياسية، وحرمان الدولة من عوائد النفط، بما يضمن تدبير احتياجات الميليشيات دون تكبُّدها تلك الأعباء، والأهم حرمان الجيش من الموارد، بالتزامن مع حظر التسليح الذى فرضته الأمم المُتّحدة عليه قبل سنوات.
تلك التركيبة كانت سببًا فى فشل مؤتمر باليرمو خريف 2018، بعدما اكتفى المشير حفتر بالاجتماع الأمنى المُصغّر مع دول الجوار، وقاطع اللقاء الموسَّع اعتراضًا على مشاركة دول داعمة للإرهاب (قال مصدر بمكتبه إنه يقصد قطر وتركيا). وقبلها فشل مؤتمر باريس فى صيف العام نفسه، بعدما اتّفقت الوفود الأربعة المُمثّلة للجيش الوطنى والبرلمان والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق، على وضع قاعدة دستورية وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية نهاية العام، وبالنظر إلى التقاء الأطراف الثلاثة الأولى على تلك الأهداف، فإن حكومة «السرّاج» كانت سبب إفساد الخطة، لأنها لم تلق قبولاً لدى حُلفائها من قادة الميليشيات وداعميهم.
بالآليّة نفسها التى فخَّخت باليرمو وباريس، أفسد «السرّاج» اتّفاق الصخيرات الموقَّع فى 2015، بعدما تحلَّلت حكومته من الترتيبات الأمنية وتدابير بناء الثقة، وتجاوزت صلاحيتها المُحدَّدة حصرًا فى 11 مادة من إجمالى 67 مادة مُوزّعة على 9 فصول، لتمضى الأيام ويتجلَّى بوضوح أن «حكومة الوفاق» ليس لها من اسمها نصيب، وأنها تعمل على زرع الشقاق وتعميقه بين مؤسَّسات الدولة ومكوّنات المجتمع.
فى غضون تلك التطوّرات، واصلت تركيا وقطر وإيران نشاطها المحموم، فلم تتوقَّف تدخُّلاتها المُباشرة عبر تمويل الميليشيات ودعمها لوجستيًّا، فتدفّقت السفن والطائرات من البلدان الثلاثة. أسقط الجيش طائرة استطلاع تركية فوق قاعدة الجفرة الجوية بالمنطقة الوسطى قبل أسبوعين، ورصد حركة كثيفة لسفن تركية وباخرة إيرانية فى ميناء مصراتة، وطائرة من طراز C130 وصلت مطار مصراتة حاملةً خبراء وغرفة عمليات، وطائرة من طراز «أنتينوف» على متنها طائرات بدون طيار بذخيرتها، والسفينة «أمازون» التى نقلت 40 مُدرّعة من ميناء سامسون التركى إلى ميناء طرابلس فى 16 مايو، والأخطر عقد «السرَّاج» صفقات سلاح فى «براغ» مطلع مايو، بوساطة سماسرة أتراك والملحق العسكرى التركى فى التشيك.
فى زحام كل تلك التفاصيل، لا ينحصر مشهد «عشماوى» فى وجهه الظاهر، كتسليم إرهابىٍّ مطلوب بين بلدين حليفين، وإنما يبدو ضوءًا كاشفًا لتفاعلات المشهد، وحدود الاتّفاقات السوداء التى تستهدف مصر وليبيا، وتأكيدًا قاطعًا لبروز الجيش الوطنى وسيطرته الشرعية على الساحة، وسط قبولٍ دولىٍّ مُتنامٍ، تُغذّيه المواقف المصرية والعربية الواضحة، وهو ما سيكون بالتأكيد مُقدّمة لتفكيك تحالفات «السرَّاج» والميليشيات، ورفع حظر التسليح عن الجيش، واكتمال تحرير طرابلس، ووضع مسارٍ دستورىّ يبدأ بإسقاط الإرهاب (عشماوى وغيره) وينتهى باستعادة ليبيا، وإعلاء رايتها فوق أعداء الخارج، وخَونة الداخل!