نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة الفاتحة فى آية "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين".. وفيها سبعة مسائل:
الأولى:
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، صراط بدل من الأول بدل الشىء من الشىء، كقولك: جاءنى زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به.
وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله عز وجل والفهم عنه، قال جعفر بن محمد. ولغة القرآن {الَّذِينَ} فى الرفع والنصب والجر، وهذيل تقول: اللذون فى الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول الذى وسيأتي.
وفى (عَلَيْهِمْ) عشر لغات:
قرئ بعامتها: (عَلَيْهِمْ) بضم الهاء وإسكان الميم، (وعليهم) بكسر الهاء وإسكان الميم. و(عليهمى) بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و(عليهمو) بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و(عليهمو) بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم و(عليهم) بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: (عليهمى) بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصرى عن العرب. و{عليهم} بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و(عليهم) بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و{عليهم} بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الأنباري.
الثانية:
قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضى الله عنهما: (صراط من أنعمت عليهم). واختلف الناس فى المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69]. فالآية تقتضى أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب فى آية الحمد، وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.
الثالثة:
وفى هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية فى صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج فى صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى فى هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الامر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال فى كل صلاة، وكذلك تضرعهم إليه فى دفع المكروه، وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة: الآية. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران: 8] الآية.
الرابعة:
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) اختلف في: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و{الضَّالِّينَ} من هم فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حديث عدى بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده، والترمذى فى جامعه. وشهد لهذا التفسيرأيضا قوله سبحانه فى اليهود: (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) [البقرة: 61 وآل عمران: 112]. وقال: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [الفتح: 6] وقال فى النصارى: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 77].
وقيل: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) المشركون. و(الضَّالِّينَ) المنافقون.
وقيل: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هو من أسقط فرض هذه السورة فى الصلاة، و(الضَّالِّينَ) عن بركة قراءتها. حكاه السلمى فى حقائقه والماوردى فى تفسيره، وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.
وقيل: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) باتباع البدع، و(الضَّالِّينَ) عن سنن الهدى.
قلت: وهذا حسن، وتفسير النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى وأعلى وأحسن. و(عَلَيْهِمْ) فى موضع رفع، لأن المعنى غضب عليهم. والغضب فى اللغة الشدة. ورجل غضوب أى شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب فى صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته، أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب» فهو صفة فعل.
الخامسة:
(وَلَا الضَّالِّينَ) الضلال فى كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن فى الماء أى غاب. ومنه: (أَإِذا ضَلَلْنا فِى الْأَرْضِ) [السجدة: 10] أى غبنا بالموت وصرنا ترابا
السادسة:
قرأ عمر بن الخطاب وأبى بن كعب (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) وروى عنهما فى الراء النصب والخفض فى الحرفين، فالخفض على البدل من (الَّذِينَ) أو من الهاء والميم في: (عَلَيْهِمْ)، أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام، فالكلام بمنزلة قولك: إنى لأمر بمثلك فأكرمه، أو لأن (غَيْرِ) تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحى غير الميت، والساكن غير المتحرك، والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي، والثانى للزمخشري. والنصب فى الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم فى عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب باعني، وحكى عن الخليل.السابعة:
(لا) فى قوله: (وَلَا الضَّالِّينَ) اختلف فيها، فقيل هى زائدة، قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: 12].
وقيل: هى تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكى والمهدوي.
وقال الكوفيون: {لا} بمعنى غير، وهى قراءة عمر وأبي، وقد تقدم.
الثامنة:
الأصل في: (الضَّالِّينَ): الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام فى اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: {ولا الضالين} بهمزة غير ممدودة، كأنه فر من التقاء الساكنين وهى لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جأن) [الرحمن: 39] فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبة وشأبة.