تتحرّك قطر كما لو كانت بلدًا كبيرًا، أو قوّة إقليمية مُؤثِّرة، لكنها ترتدّ عن هذا حينما تُواجه أزمة تتطلَّب إدارتها بوعىٍ، وتحمُّل عواقب تلك الإدارة وما يترتّب عليها من كُلفة مُحتملة. المثال الأوضح لذلك حضورها مُتعدِّد الأذرع فى المنطقة وملفّاتها الساخنة، وإدارة عدّة صراعات وتحالفات بين أنظمة حُكم وميليشيات مُسلَّحة، لكنها مع الاصطدام بقرار المقاطعة العربية وقائمة المطالب الثلاثة عشر، عادت إلى حقيقتها كدُويلة ضئيلة، وحاولت تصوير الأمر باعتباره سعيًا لتقويض سيادتها واستقلالها!
قال وزير خارجية الدوحة محمد بن عبدالرحمن آل ثانى، إن الاتهامات الموجّهة لبلده لا تستند إلى حقائق، زاعمًا أنها محاولة لفرض الوصاية، وبعيدًا عن الإقرار بالضآلة فى تصريح المسؤول الدبلوماسى الأول، ومُجافاته رؤيةَ الإمارة لنفسها كقوة قابضة على خيوط الفعل والتأثير فى عدد من الساحات المُلتهبة، يُلخِّص حديثه استراتيجية قطر فى المناورة، إذ تنفخ رئتيها مع الميليشيات والإرهابيين، وتنكمش حتى يلتصق بطنها بظهرها مع الدول والحكومات، وبين الحالين تُوظِّف خطاب المظلوميّة، لاستجلاب التعاطف وشَيطنة الخصوم، وفى سياق هذا التوظيف تسلَّمت المطالب العربية فى 22 يونيو 2017، وسرَّبتها للإعلام فى اليوم التالى!
لم تشتمل المطالب على أمور تنال من السيادة، لكن تسريبها استهدف إشاعة صورة نمطية للأزمة، تبدو فيها قطر طفلاً صامتًا، بينما تتوالى قذائف الكبار، عبر قرارات وبيانات ومُقاطعة ومطالب، ليتبلور المشهد الذى أرادته الإمارة، ونسجت خيوطه عبر المنصّات الإعلامية التابعة والموالية، كما لو أنها تحتفظ بالهدوء ورباطة الجأش، فى الوقت الذى يُحرق فيه الآخرون الأرض ويستنفدون خيارات التوافق. صحيح أن الدوحة لم تُحقِّق مُرادها من المناورة، إلا أنها قطعت مزيدًا من الخيوط مع الأشقاء، وأكّدت سوء النية فى التعاطى مع ملاحظاتهم ومطالبهم.
كانت أبرز المطالب: قطع العلاقات مع إيران وطرد قوات الحرس الثورى، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية، والتوقّف عن دعم الإرهاب خاصّة الإخوان وحزب الله والقاعدة وداعش والحوثيين، ووقف تجنيس مواطنى الرباعى العربى «مصر والسعودية والإمارات والبحرين»، وتسليم المطلوبين أمنيًّا ومَن يواجهون أحكامًا قضائية فى الدول الأربع، والكشف عن التيارات والجماعات المدعومة من الإمارة وقوائم التمويل وقيمته وخريطته الزمنية، وتعويض الضحايا والخسائر جرّاء الممارسات المتجاوزة لأمن المنطقة ومصالحها، وأخيرًا احترام مُقرَّرات اتفاق الرياض وملحقه التكميلى فى 2014. وكلها مطالب مشروعة، فضلاً عن أنها محاولة لوضع الإمارة أمام التزاماتها بموجب المواثيق والتعهّدات وقواعد القانون الدولى، ولا يُمثّل رفضها والتملّص منها إلا إصرارًا على اختراق القانون، واعترافًا ضمنيًّا بدعم الإرهاب، والتمسُّك بهذا المسار غير الشرعى!
بعد أسبوعين من انتهاء المهلة، واليومين الإضافيين اللذين طلبتهما الكويت، ألقى تميم بن حمد خطابًا، بدا فيه مُتشدّدًا ومُصرًّا على مواقف الإمارة وسياساتها، ومُتمسّكًا بالتحالف مع الغريمين التركى والإيرانى، إلى حدّ ترديد الرسائل الساذجة لوزير دفاعه، خالد العطية، التى زعم فيها أن وجود قوات تركية على أراضى الإمارة ضمانة لأمن المنطقة، فى وقت كانت ميليشيات أردوغان تستبيح الأراضى السورية دفاعًا عن داعش، عبر استهداف وحدات حماية الشعب الكردية التى كبّدت التنظيم خسائر فادحة، وكانت طائراته تقصف الشمال العراقى بحجّة تتبُّع مقاتلى حزب العمال الكردستانى، ولا تتوقّف إمداداته بالخبراء والمدرعات وطائرات «الدرون» للميليشيات المشتبكة مع الجيش الوطنى الليبى. بل إن تلك التحركات المشبوهة كانت مُموّلة بأموال قطرية، تدفّقت بغزارة وعشوائية، إلى حدّ دعم خصمين مُتصارعين، كما حدث فى سوريا!
بين 2011 وقرار المقاطعة فى 2017، دعمت قطر تنظيمات داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام فى مواجهة الجيش السورى، وموّلت حزب الله اللبنانى وفيلق القدس بالحرس الثورى الإيرانى، اللذين حاربا إلى جانب نظام بشار الأسد، وتكرَّر الأمر فى العراق بدعم داعش وخصومه فى ميليشيات الحشد الشعبى الشيعية المدعومة من طهران، وفى اليمن كانت الصورة أكثر كوميديَّة وتناقضًا، فبينما دفعت الإمارة بقوات ضمن التحالف العربى، موّلت مقاتلى جبهة الإصلاح (إخوان) وميليشيات الحوثيين، ودعمتهما لوجستيًّا ومعلوماتيًّا، وهما غريمان، فضلاً عن أنهما خصمان للتحالف الذى اصطفَّت جنود قطر معه، أى أن الإمارة ضئيلة الحجم والوعى والرؤية أرسلت مُقاتلين وسلَّحت أعداءهم!
فى مصر لم تتوقف الإمارة عن دعم إخوان الداخل، واحتضان قادتهم وعناصرهم الهاربين من جرائم وأحكام قضائية، ووظَّفت بنوكها وشركاتها فى تمويل قواعد التنظيم، بل وصل الأمر إلى دخول الأموال فى الحقائب الدبلوماسية وعبر صفقات ومعدّات للسفارة وبعثتها الدائمة بالجامعة العربية. وفى ليبيا أرسلت فِرقًا أمنيّة اتّصلت بالميليشيات ونسَّقت عملياتها، وحوّلت التمويلات عبر مصارف أوروبية وتونسية، لتتولّى عناصر حركة النهضة (إخوان تونس) إيصالها لقادة التنظيمات، إضافة إلى تمويل حكومة فائز السرَّاج المُتحالفة مع الإخوان، عبر مِنَح وعقود نفط وهمية. كما دعمت نظام «البشير» ليكون قاعدة ارتكاز لإزعاج مصر، مع تمويل عناصر الإخوان النازحين للسودان. ووجّهت صواريخ الحوثيين للسعودية مع اتّخاذ «صعدة» مُنطلقًا لتنفيذ عمليات برّية، وحرَّضت حركة الوفاق الشيعية المدعومة من إيران ضدّ نظام البحرين، وسلَّمت مخازن وتمركزات عسكرية إماراتية فى اليمن لقبضة الميليشيات.
نسيج مُعقَّد من مئات التحرّكات القذرة، والتمويلات المشبوهة، بغرض حصار القوى الإقليمية ومصالحها عبر مسارات عدّة، سعت إلى إلهائها فى تشابكات وتعقيدات طارئة، لإهدار طاقاتها، وصرف أنظارها عن بؤر السخونة فى محيطها، بينما تتقدَّم تركيا وإيران إلى قلب المنطقة، دون عناءٍ أو أعباء، إذ تتكفَّل الإمارة المارقة بإحكام المؤامرة وتنفيذها، وفوق ذلك تتبرَّع بتمويلها، ليخسر كلّ العرب تقريبًا، وأوّلهم الشعب القطرى مسلوب الإرادة، ويكسب سادة «آل ثانى» فى أنقرة وطهران!