إذا كان هناك شاعر / شاعرة تتقصى كتابة قصيدة الهزيمة والفقدان والخيبة والحسرة ،فهى الشاعرة نجاة على ، وإذا كان هناك من يسعى للإمساك بمناخات كابوسية للقصيدة كمن يغزل ثوبا من خيوط خشنة سوداء فلا ينتهى من الغزل ولا يرضى بما يغزل لكنه يواصل عمله وهو يتساءل ، ما هذا الظلام الكثيف فى الليل وفى عينى وفى الأشياء من حولى ؟ فلاشك أنها نجاة على أيضا.
"قبور زجاجية " عنوان المختارات الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب ، للشاعرة نجاة على ، وتضم ثلاثين قصيدة من مجموعاتها الشعرية الثلاث "كائن خرافي غايته الثرثرة" - المجلس الأعلى للثقافة 2002 و" حائط مشقوق" – الهيئة العامة للكتاب "2006" و"مثل شفرة سكين" - دار النهضة العربية"2010" ، وتبدأ بقصيدة " قرب حائط مشقوق" ليدخل القارئ مباشرة إلى عالم من الخسارة واليأس وفقدان الرغبة فى الحياة ، بسبب الآخرين القساة الغلاظ الذين ينعكسون مثل الظلال على روح الشاعرة وكلماتها ، وكأنها تتساءل مع كافكا " كيف أصبحت الشخص الذي أنا هو؟ هل أنا نفسي فعلا، أم صنع مني الآخرون الشخص الذي يمثلنى" ؟
" كفّي التي تقبّلها بحنانِ طفلٍ / ولا تحاول قراءتَها الآن / فخطوطُها غائمة مثل مِطفأةٍ معتمة /هي لن تقول لك مثلا: / إنني أفرطتُ في اليأس / وفي السّير لساعاتٍ طويلة بلا هدفٍ/ أنتظرُ الليلَ / ومن بعده القبر"
وتتوالى قصائد الخيبة والفقد والخسران والكراهية والرغبة فى مغادرة العالم ، وكأننا أمام مقاطع متتابعة لمرافعة شعرية ضد العالم وضد العلاقات الزائفة وفى كراهية البشر المشوهين الكاذبين وفى محبة الموت . فى قصيدة " في انتظار مرورهم من هنا"، تقول : " فجأة / وجدت نفسها تبحثُ عنه / ربما ليقطعَ وحدتَها /أو ليذكّرها بخيبتها / وأنّ كلّ الذين أحبّتهم /كانوا مجرمي حربٍ حقيقيين /أتقنوا دورهم جيدًا"
وفى قصيدة "المحترفة " ، تقول : "هذه المرأةُ التي تجلسُ بجواري / متوهجةً بصيدِها الجديد / كنت أتفرّجُ عليها وأضحكُ / وهي تأخذُ منّى الولد / الولدُ الوحيدُ الذي أحببتُه / ببلاهة ، تركتُه لها هكذا / دون مقاومة" .
وفى قصيدة " في انتظار الملاك الطيب" ، تقول : " لم تعد تطيق الانتظار / لقد تأخر كثيرا / ربما لسنوات طويلة /ستعرفه جيدا من هيئته الطيبة / ملاك الموت ، ذلك الذي تحبه / لكنه أفسد ـ بتأخره ـكل شيء أعدته من أجله / غلّقت النوافذ والأبواب بحيطة / وأطفأت الأنوار /ولا تجد الآن ما تفعله"
الخسارات متعددة والهزائم كثيرة ، فالذات الشاعرة غير متوائمة مع محيطها وهى فى حركتها اليومية لا تملك إلا أن توظف الأدوات الوحيدة التى تملكها لتحقق الانتقام الذى ترجوه من معذبيها ، فتدون سيرتهم وتسجل حركاتهم وسكناتهم وتواجههم فى عالمها الافتراضى الموازى الذى تصنعه من كلمات قصائدها ، وفى هذا العالم يمكن أن ترتكب الجرائم بحرية وأن تحقق العدالة الغائبة كما ترجوها ، مثل أى متطرف يقطع رءوس من يظنهم كفارا متصورا أنه يقيم شرع الله فى الأرض .
القصيدة عند نجاة على نوع من العالم التعويضى ،مونودراما تصنعها داخل اللغة والعبارات الشعرية التى تبنى عالمها وتقيم أعمدته وتطلى نوافذه بالأسود حتى لا يعكس أى ضوء للخارج ، وداخل هذا العالم الافتراضى التعويضى ، تخلع ذاتها وتضعها جانبا وتستدعى كل المفردات والأشخاص المؤثرين فى هذه الذات وتحاكمهم مثلما تحاكم ذاتها أيضا
ياله من مشهدٍ رائع يستوجبُ التصفيق /سأراقبُ بهدوء شبحَه الضئيل في الغرفة / ورأسه الذى يتدلّى ببطءٍ فوق الكرسي / وبجواره بالضبط / سوف تستقرّ تلك السكين الباردة / التي طعنَ بها نفسه منذ قليل-" هزائم صغيرة للعشاق"
تحوّلَت إلى فُرجةٍ / دون أن تدرى / وبمرور الوقت تزداد بلاهةً / كانت تخشى ظلَّها حين يصطدمُ بملامحِه الباردةِ وعينيه الضيقتين / ولا تعرفُ كيف تهربُ من ابتسامتِه / التي تسخرُ من أيِّ شىءٍ تقابله ..../ لكنها تعرف جيدًا / أنه لا أحدَ يحتملُها / سوى هذه الحاناتِ القديمةِ المظلمةِ /التي أدمنَتْ الذهابَ إليها / مع أولئك الأحياءِ الميتين" –"الفرجة"
القصيدة عند نجاة على، ذاتية بامتياز ، محدودة بزمانها ومكانها المباشرين دون آفاق رمزية أو بلاغية يمكن تأويلها ونسبتها للمجموع ، فرغم الكابوسية والخيال الجامح وظلال اليأس والخيبات التى تخيم على القصائد ، إلا أنها لا تسعى لأن تكتسب القصيدة أبعادا لا تحتملها ، سياسية أو اجتماعية أو حتى إنسانية كونية ، هى مجرد ذات منقسمة مهزومة تحاكم نفسها وتحاكم الآخرين فى الدائرة القريبة منها، ممن تسببوا فى عطبها وأوصلوها إلى تلك المحطة البائسة من رئاء الذات واشتهاء الموت والوقوف به طويلا ، لكنها قصيدة مغلقة على بعدها الجمالى الواحد فلا تحمل أملا ولا نستشعر فيها قوة التحدى ولا حماسة التمرد ولا دفقة الغضب المدمر ، إن هو إلا استسلام ينعكس بدوره على بنية النص وسبكه وصياغاته الأشبه بمياه بحيرة لا تحركها ريح وتفتقد من يلقى فيها الحجر الباطش.
"ستكونُ هزائمي مريحةً لكم هذا المساء، ولاحاجة لي بكم " فتعيّرونني "بهذا القبر الضيّق، فهو يناسبني تمامًا، وسأودّعُ - بسعادةٍ بالغة- حُفَّاره، كي أهرب منهم ومن أشياء كثيرة لا أعرف معناها بالضبط : الرحمة، والفضيلة، ورائحة أمي المخيفة التي تتجول بحرية بين غرف البيت، والتي علمتني سوءَ الظن والوقاحة، لابدّ إذن أن أتخلى عن تلك الأوهام البلاغية، التي تورطتُ يومًا في عشقها، وأن أحاول أن أهشّ هذا الذبابَ اللعين، الذي يروح ويجيء فوق رأسي، فيصيبني بالدوار والغثيان،فأبصق على نعشي، وأتسلّى باصطياد العناكب المتوحشة، التي تركت بقعًا فاحمةً على جلدي، أيضًا هذه المنضدة المعوجة، تلك التي جعلتني أخلطُ بين صورتي وصورة الذين أفسدوا حياتي وعطلوا وجودها"- "ضجيج الموتى"
الوعى الذاتى لدى "نجاة على" وعلاقتها بالعالم يكشف إلى أى مدى تصدر الشاعرة حالة من الاغتراب عن العالم ، بعد أن عجزت عن التحرر من ربقته والتخلص من وطأته الضاغطة ، بمواجهته وخوض الحرب ضده حتى النهاية ،بل هى تستخدمه لبناء علاقات لها طابع انهزامى شكائى وصفى ، ما يمثل حالة كابوسية خالصة . والشاعرة رغم رفضها الواضح للعالم وعلاقاته ومحيطها الزائف ، إلا أنها تعمد إلى الهروب نحو الموت ، فى محاولة سلبية للتحرر من شبكة العلاقات الفاسدة التى ترفضها ، وما عملية هدم المعبد التى تقوم بها فى النهاية إلا نوعا من الحل الدرامى ، بعد أن توحدت بغرابة شديدة مع من أعطبوها وأفسدوا حياتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة