تدور الماكينات، وتقذف المطابع ودُور النشر آلاف العناوين الجديدة سنويًّا. وما تزال أزمة الوعى قائمةً، وترسيمُ الحدود الجماليّة وآفاق المُغايرة والابتكار، حبيسَ تصوُّراتٍ قديمة وباليةٍ عن الإبداع، وعن الحدِّ الفاصل بين الدهشة والابتذال!
رغم اتّساع المِحنة؛ وتكليلها فضاء المعروض الأدبى بأنواعه، وما يعبُر الأنواع من كتابةٍ حُرَّة، فإنَّها تتجلَّى بأوضح صُورها وأكثرها فجاجةً فى الشِّعر. وعلى امتداد خارطةٍ يزحمها آلاف الكَتَبةِ المُقلِّدين، ممَّن ارتدُّوا بجماليات الشِّعر، من حيث كونه تجريدًا وتكثيفًا ومُغايرةً وخُروجًا على المُستقرّ دلاليًّا، ورُبّما بنائيًّا، سار الشُّعراء الصغار، عُمرًا أو تجربة، فى جُوقاتٍ مُتلاحقة، يظنّ كلٌّ منهم نفسَه مُنشدًا و«صَيِّيتًا» مسموعًا، بينما ينتظمون فى طوابير؛ لإعادة إنتاج ما أنجزه الآباء، وتجاوزه الأحفادُ، ومن فَرط السطحيّة ينزلقون فى بِركةٍ آسنةٍ من الهوامش والاستطرادات وسَرد الصغائر، وتسفيه العلامات، ومركزة و«تبئير» الذوات الخفيفة، عبر حاملٍ لُغوىّ مُفكَّك، ومحمولٍ دلالىٍّ مُسطَّح، فى أبنيةٍ عارية من الرؤى والحفر الثقافى والجمالى العميق، وللأسف يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا!
لا شكّ فى أن قُماشة الإبداع عريضةٌ وعظيمةُ التنوّع، تكتنز عشرات النقوش والألوان، وتقبل التفصيل كيفما شاء «الترزى» واللابس. لكنّ مَناط الفرز ينعقد للإبداع لا التنوّع، وفى الشِّعر رُبّما لا يكون النصُّ الذى يَرِدُ الطُّرق المطروقة، أو يُعيد إنتاج المُنتَج وقَولَ المَقُول، وفق صيغةٍ غنائيّة عاطفية، جديرًا بالاتّصاف بالشعريَّة أصلاً، وإن حمل من صفاتها حِصصًا وأنصبةً وافرة.
خروجًا من العموميّة التى تبدو سياحةً فى فراغ، إلى لَحم الواقع و”شَغَته” وما يعلق فى كُفوف المُتشاعرين من دم الخيال واللُغة، لا يُمكن الإيغال فى حالة اللوثة التى تشهدها الساحة، مُحتفظين بقسطاسنا، وإيماننا الأبيض بعدالة القراءة والتقييم. فوفق هذا التصوُّر يتحرّج كثيرون من فرز التجارب وتقييمها، ويُعلّقون الرهان فى رقبة الأيام واكتمال التجربة فى الزمن. بينما فيما يخصّ الأصوات التى حصَّلت نصيبًا من المعرفة وحظًّا من العمر، يُصبح الحُكم أيسر، والاعتباط مُستفزًّا.
هكذا تبدو الصورة الآن. تَترى مُشاهدات وتقييمات مجانيّة، ومقالات ومُراجعات وندوات وإشادات مُتبادَلة على طريقة «نُقوط الأفراح»، وتتدفّق الجوائز والأموال يمينًا ويسارًا، وأغلب ذلك لا يرتكز إلى منهج ولا موروث، ولا إنجازٍ اقتنصه الراهن من رُكام الماضى، وتِلال التجارب التى أفنَت أرواحًا ومُبدعين، ولا أفهم تهليل من يُديرون المسابقات والسلاسل ودُور النشر والمحافل والمُنتديات، وأغلبهم مُبدعون يُفترض أنهم وضعوا أياديهم على وعىٍ إبداعىٍّ وجمالىٍّ ناضجٍ نوعًا ما، لتجارب استنساخيّة تُؤسِّس مشروعاتها على رَجع الصدى، وتتلبَّس عباءة الخفّة، أو تقتات على خزين شاعر القبيلة، أو أرغفةٍ خبزها درويش وأدونيس والماغوط ورياض الصالح وغيرهم، إما احتفاءً بروح المُطرب الجوّال، أو وقوعًا فى برزخ المُتفلسِف الذى يستعير سياقًا مُستجلَبًا من خارج الحظيرة، فى تخلٍّ واضح عن عضويّة انتماء الشِّعر للناس، وقيادته لهم، وعن فاعليّة الحداثة فى الخروج من الوجدانيّة المَحضة؛ للاقتراب من لغة الروح والعقل.
هكذا يتورَّط الآتُون حديثًا فى كتابة ما خطّه الأسلاف، أو حكاية ما سطّرته ثقافات أخرى، وجَهدُ طاقتهم وغايتُه امتلاك ذواتهم المُستعارَة - ليست استعارةَ الأفكار/ المعانى، المُلقاة رمادًا على الطريق كما قال الجاحظ، ولا تناسل الهمّ البشرىّ ودراما العالم المَكرورة، وإنما استعارة التورُّط فى وعى قديم باشتراطات جمالية ومنظومة تواصل وإنتاج للعلامات - وتلبيس تلك الذوات المَنتحَلَة ألفاظًا وملامح، يُغطّى «المكياج» المُعَصرَن على ما فيها من بدائيّة، فكأنّنا أمام راوٍ مُحدَثٍ لسيرةٍ عتيقة. قد لا تفطن الجدَّة العجوز فى «عصاريها» المُستكينة تحت جدار آيلٍ للسقوط، لما يحمله التعليب «المُمَكيَج» من وَهمٍ، ولكن لا يَجدر بالأحفاد الذين شيَّدوا مساكنهم بالآجُر والخرسانة، وارتدوا البناطيل والقُبّعات، أن يشتروا القديم ويُهلِّلوا له، مُشاركين فى تضليل الراهن وسرقة الماضى، بجريمةٍ لا تقلّ عمّن شجَّع الخارجين على أخناتون، ومَن طمسوا خراطيش أسلافهم.
التعليل الوحيد المفهوم مَردُّه الجهل، أو الثقافة المُسطَّحة التى لا تُوغل فى الجوهر، لكنه تبريرٌ غير كافٍ ولا مُقنع، إذ إن بعض المُتورِّطين فى تلك السيولة يَعون ويفهمون، ورُبّما كان الأمر تسطيحًا عمديًّا لتذويب المُنافسة، وتغييبًا لحقيقة المشهد بغرض تَسييد مسالك بدويّةٍ مُستدعاةٍ من سياقٍ يحتفى بالإنشاد والتطريب، ليكونَ الشِّعرُ مُؤانسةً للتسلية الليليّة، لا مدخلاً للفكّ والتركيب وفَهم العالم والاشتباك معه، بوعىٍ، وليس بانزلاقٍ ساذج إلى مُفارقة الواقع والتعالى عليه، غرقًا فى كتابة بيولوجية، تُشبه دورة حياة المواد العضوية فى معدة الإنسان وخارجها!
فيما يخصّ «العاميّة» نموذجًا، يُمكن اقتناصُ تفسيرٍ مُقنعٍ نوعًا ما. كثيرون من شُعراء الفصحى يرون النصّ العامىّ نصًّا لَهَجيًّا مَحكيًّا، لا يصحّ أن يجاوز حنجرة القائل إلى ما فوق أُذن السامع، ولا يقتنعون أنّها مُجرّد رهانٍ لُغوىّ، جمالىّ لدى البعض وأيديولوجىّ لدى آخرين. وأنّ هذا الرهان كُفء لحَمل ما يحمله اللسان الرصين، بل ويزيد عليه أحيانًا.
وفق ذلك الوعى الخفيف، يُعيد أبناء صَنعة الشِّعر مَوضعةَ اللُغة فوق حَيِّزها الإشارى، ويتوهّمون أن المتنَ ابنُ الرسميّة اللُغويّة، وأنّ على الهامش الدارج أن يكون فُسحةَ المُحاربين وسَمر المُتسامرين، والغَيمة التى تُلطِّف الأجواء بميوعة. هذا وعىٌ قاصرٌ فى التعاطى مع العلامة الملفوظة، باعتبارها مجرّد أداة اتّصال، وهو قُصورٌ يتأسَّس عليه اجتراحٌ سطحىّ للحساسية اللغوية، وارتدادٌ إجبارىّ إلى ما يختزنه الوعاء المُختَار من مَسالك عبّدَها الأوّلون، فضلاً عن كونه حُكمًا تبسيطيًّا على اللسان المحكىّ/ المتن بالأساس، يفضح «شيزوفرينيا» الفصحويّين، الذين يعيشون نصًّا ويكتبون غيره.
فى المقابل، فإن قناعة «العامّيين» بهذا التصوّر تحبسهم فى حيّز الإنشاد والتسلية، وتفرض عليهم مُواضعات فنيّة وجماليّة مُنحازة للتطريب وإرضاء السامعين. وبين الحالين يسقط الشِّعر تحت أحذية «الصنايعيّة»، الذين لا يملكون وعيًا كافيًا بأداة صَنعتهم الأولى، فيبدون ببّغاوات فى قفصٍ زجاجى، يحجب الصوت الذى لا معنى فيه أصلاً!
بعيدًا عن الرُؤى والأسباب، يبدو أننا نحتاج مقارئ وكتاتيب؛ لنُقرئ كثيرين من أبناء المشهد الإبداعى تاريخًا مُعاصرًا، يبدو أنهم لم يُحسنوا تذوُّقه ولا هضمه، ويتلقّون جديدَه كما يتلقّون قديمه، ولا فرق، ويُهلِّلون كما يُهلِّل من قال فيه شوقى «عقله فى أُذنيه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة