يبدو أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نجح إلى حد كبير فى إحكام قبضته على مقاليد الأمور، داخل الولايات المتحدة، منذ بداية حقبته كرئيس للولايات المتحدة، وهو ما يبدو واضحا فى قدرته الكبيرة على فرض رؤيته، سواء فى الداخل أو الخارج، ربما ليعيد الهيبة من جديد للبيت الأبيض، باعتباره المركز الحقيقى لصنع القرار فى أمريكا، بعيدا عن المؤسسات الحزبية، وعلى رأسها الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه، حيث تمكن فى احتواء كافة الأصوات المعارضة له، عبر تقويض إرث أسلافه الجمهوريين، فيما يتعلق بموقفه من العديد من القضايا الدولية.
قرار ترامب بإقالة مستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون، أمس الثلاثاء، تضفى انطباعا صريحا حول الرؤية التى يدير بها الرئيس الأمريكى الأمور داخل حزبه، والتى تقوم فى الأساس على إعادة هيكلة المفاهيم التى يتبناها التيار المحافظ فى الولايات المتحدة، بعيدا عن نهج ما يسمى بـ"تيار الصقور"، والذى بدا مهيمنا على الأمور بشكل كبير داخل الحزب، وبالتالى تمدد دوره أثناء حقب الإدارات الجمهورية المختلفة، وكان أخرها حقبة جورج بوش الإبن، والذى دجج إدارته بـ"الصقور"، وعلى رأسهم بولتون نفسه، حيث لعب دورا رئيسيا خلالها فى قرار غزو العراق فى 2003.
ولعل المفارقة الجديرة بالملاحظة هى أن قرار إقالة بولتون جاء فى عشية الذكرى الـ18 لأحداث 11 سبتمبر، والتى أعادت واشنطن لدائرة الصراع، بعد سنوات من الهدوء النسبى فى أعقاب الحرب الباردة، والتى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى، وبداية الهيمنة الأمريكية على النظام الدولى، حيث كان مستشار الأمن القومى المقال لاعبا فاعلا فى سلسلة الحروب التى خاضتها واشنطن، ضد جماعات إرهابية غير نظامية، دون أن تحقق هدف القضاء عليها، بل ساهمت فى زيادة نفوذها بصورة كبيرة، لتتحول إلى قوى عابرة للدول، من خلال ظهور وحش "داعش"، والذى اضطرت الإدارة السابقة إلى مهادنته، لشهور طويلة.
يبدو أن اختيار توقيت الإعلان لم يكن مصادفة، فهو يرتبط فى جزء كبير منه باللقاء المحتمل الذى قد يجمع بين الرئيس الأمريكى ونظيره الإيرانى حسن روحانى، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمقرر انطلاقه فى نيويورك، فى وقت لاحق من هذا الشهر، ولكن يبقى الجانب الرمزى فى ارتباط القرار بذكرى أحداث 11 سبتمبر لا يقل أهمية، حيث يحمل رسالة ضمنية مفادها أن اليمين الأمريكى أصبح بدون "صقوره"
وهنا تحمل رؤية ترامب إلى اليمين الأمريكى اختلافا كبيرا عن تلك التى يتبناها "الصقور"، والذين اعتمدوا الألة العسكرية كوسيلة للاحتفاظ بالنفوذ الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، وهو النهج الذى ساهم فى زيادة الأعباء الاقتصادية على الميزانية الأمريكية، بينما أدى إلى تأكل مكانتها الدولية، فى ظل صعود قوى دولية أخرى، لمزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولى، وعلى رأسها الصين وروسيا، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة فى أرواح الألاف من الجنود الأمريكيين، والذين تم استهدافهم بيد الميليشيات المسلحة.
ربما حمل النهج الأمريكى، فى عهد ترامب، وسائل أخرى، بهدف فرض الضغوط على الخصوم، كان على رأسها العقوبات الاقتصادية، وتصعيد لغة التهديد، وهو ما يبدو واضحا فى التعامل الأمريكى مع كلا من إيران وكوريا الشمالية، ولكن يبقى الهدف الرئيسى وراء هذا النهج هو دفعهم نحو مائدة التفاوض، وهو النهج الذى حقق نجاحا غير مسبوق تجاه كوريا الشمالية، فى حين أن الأمور مع طهران ربما فى طريقها إلى الانفراج، وهو ما يبدو واضحا فى انخفاض حدة التصريحات من جانب، وتصاعد احتمالات اللقاء بين ترامب وروحانى من جانب أخر، بهدف الوصول إلى حلول يمكن من خلالها انهاء عقود من العداء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة