د. شوقى عبدالكريم علام

فقه فتبينوا.. الوطنية

السبت، 18 يناير 2020 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يرتبط وجدان الإنسان بالمكان الذى يولد ويعيش فيه وينتمى إليه، ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا، فيطلق عليه موطن الإنسان أى «وطنه».
 
وارتباط الإنسان بوطنه له أواصر ذاتيّة لا يمكن التخلّى عنها، بيد أنّ هناك معايير وركائز ووسائل وضوابط يُعرف بها مدى انتماء الإنسان لوطنه أو العكس.
 
والوطنيّة تعنى انتماء إنسان ما وتعلقه بوطنه وولائه له فى كل حال، ومن ثم فيكون الوطن فى القلب والمركز من الوجدان الإنسانى، ويترتب على ذلك تصرف قلبى وآخر  مادى، فأما القلبى فذلك الحب المركوز فى القلب للوطن الذى ينفعل معه الجسد والأعضاء ليثمر كل ذلك عن عمل بناء وحقيقى وصيانة لمصالح البلد ودعم لسلطته، أى هذا الوطن، وهذا ما يمثل الجانب المادى المتفاعل مع القلبى.
 
ولذلك تتضمن الوطنية مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بالقومية مثل الارتباط، والانتماء، والتضامن، لأن واقع الحال يفيد بأن المصالح مِلكٌ للأمة التى تُعَرِّفُ الدولة بعلامات وملامح إثنية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية مميزة.
 
فالارتباط والانتماء والتضامن من أجل مصلحة الوطن هو معيار الوطنية، فالانتماء لبقعة معيّنة من الأرض ينتمى إليها الإنسان فيتفاعل معها وتتفاعل معه، ويرتبط بها عاطفيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وتاريخيًّا، ويذود عنها فى وجه أعدائها، يحميها من التلف والضياع.
 
والتضامن، وهو ما نُطلق عليه الشعور بـ«المسؤوليّة المشتركة» والمقصود بها هى شعور الإنسان بالاشتراك مع غيره بالمسؤولية الدفاعيّة عمّا ينتمى إليه، وأصل ذلك ما يُروى عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه قال:«مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا».
 
فيدلّ الحديث على أنه ما من أمر من أمور الحياة إلا ويعرض له من الأذى والضرر الذى قد يُضيعه، بداية من أصغر شىء يملكه الإنسان إلى أكبره مثل السفينة كمثال فى الحديث، وإذا اشترك الإنسان مع غيره فى الانتماء لمنزل أو شارع أو حى أو قرية أو مدينة أو بلد، فإنه يقع على عاتقه مسؤولية تجاهه تحمله على التضامن مع غيره فى الحفاظ عليه.
 
وإذا كانت الوطنية تعنى الانتماء والتضامن والشعور بالمسؤولية المشتركة، فإنها شىء محمود غنى بالمعانى الراقية التى ينطلق منها ويحافظ عليها الإنسان الراقى النبيل.
 
ومن ثم لم تجد الوطنية فى سياق الدراسات المعاصرة رفضًا إلا عند الجماعات المتطرفة، التى رأت أن الوطنيّة تعنى التخلى عن الولاء للدين، وأنها تعنى العصبية للأرض، فى حين أنّ الإسلام هو الوطن والقوميّة التى يجب الدفاع عنها، كما قال ذلك أحد منظّريهم الكبار أبوالأعلى المودودى، وتبعه سيد قطب ومن قبلهما وجدت الفكرة فى أساسياتها عند حسن البنا، وما زالت تلك النظرة سارية حتى وقتنا هذا فى أدبياتهم جميعا على اختلاف مشاربهم وتنوع اتجاهاتهم.
 
والحقيقة أنه ليس هناك ثمّة تعارض بين انتماء الإنسان لدين الإسلام وبين انتمائه لوطنه، ولا بين الموت فى سبيل الإسلام بينه وبين الموت فى سبيل الوطن، ذلك أنه بغير استقرار الوطن ورفعته لا يمكن تحقق الدين واستطاعة الإنسان القيام بشعائره الدينيّة، ثمّ إن هناك معنى آخر وهو أنّ التديّن بغير وطنية وانتماء أمر ناقص، لأنه لا بد من راية يعيش الإنسان تحتها تظله ويدافع عنها، وهذا التقرير هو ما فعله المصريون فى طريقة تديّنهم ووطنيتهم فلم يروا بأسًا فى الانتماء لدينهم وبين الزود عن أرضهم، خاصة إذا كان الوطن له خصيصة دينية وردت فى نصوص الشرع كما هو الحال فى مصر.
 
ولذلك فالحديث عن الوطنية يقتضى أن نقرر أنّ الانتماء للوطن ومحبته وانصراف القلب ناحيته من الدين، فقد قيل: حب الأوطان من الإيمان، ومن ثم فإننا نزود عنه وندفع كل اعتداء عليه بالنفس والمال وكل شىء إذا تطلب الأمر، وقد عبر رفاعة الطهطاوى عن القيمة العليا للوطن فى نفس الإنسان، وأنها مغروزة فى ضميره وفى قلبه ووجدانه، وذلك بقوله: «عِشّ الإنسان الذى فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذى نشّأّته تربتُه وغذاؤه وهواؤه، وربّاه نسيمُه، وحلت عنه التمائمُ فيه».






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة