لا شك أن شهادة الشهود أو البينة الشخصية وسيلة من وسائل الإثبات القانونية والمقصود منها أن يثبت المرء حقه أو يثبت ادعاءه في مجلس القضاء بأشخاص يسميهم للقاضي للإدلاء بالشهادة في النزاع المنظور أمام المحكمة، ودائما يلجأ الناس لإشهاد بعضهم البعض في معاملاتهم، وذلك لحفظ الحقوق ولكن هنالك من يخطئ في اختيار الشاهد أو الشهود، مما يتسبب له في المستقبل إذا حدث خلاف فى ضياع حقه والسبب يعود لجهل الكثير من الناس في معرفة شروط الشهادة ومدى انطباقها على الشاهد أو شهود الذين أشهدهم على حقه عند الآخرين.
ومن المعلوم أنه لا يكفي أن يكون الإنسان على حق ليربح دعواه، بل عليه أن يُثبت هذا الحق، إذ لا قيمة للحق إن بقي مجرّداً عن كل ما يُثبت وجوده، والإثبات هو إقامة الدليل أمام القضاء، وفقاً للشروط المنصوص عنها قانوناً على واقعة مادية أو عمل قانوني يُسنَد الى أيّ منهما طلب أو دفع أو دفاع، ومـفاد الشهادة أن يُثبت المتقاضي ادعاءه أو دفاعـه، بإفادة أشخاص يُسميهم، ويدعوهم الى المحكمة لأداء شهاداتهم، في النزاع العالق أمامها، على وقائع غريبة عنهم، وغير متعلّقة بهم شخصياً، ولكن الصدفة شاءت أن يتواجـدوا في مكان أو زمان حصولها.
مدى جواز الشهادة بـ "التسامع"
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية في غاية الأهمية تتعلق بالشهادة السمعية ومدى جواز الأخذ بها، وكذا أنواع الشهادة أمام القاضي الجنائي في ضوء قضاء النقض، في الوقت الذى تعد فيه الشهادة من بـين وسائل الإثبات القانونية، حيث تبرز شهادة الشهود، أو ما يُعرف بـالبيّنة الشخصية، وهي من الوسـائل الصادرة عن غير المتداعين، و الشاهد لغة هو من أطلع علي الشيء وعاينه والشهادة اسم المشاهدة وهي الاطلاع علي الشيء عيانا – بحسب أستاذ القانون الجنائي والمحامي بالنقض ياسر الأمير فاروق.
في البداية - لا يخفي علي أحد أهمية الشهادة في إثبات الجرائم فهي الدليل الأول أمام القاضي الجنائي علي اعتبار أن الجريمة ليس تصرف قانوني بل واقعة مادية، فالشهود كما قرر – بنتام - هم عيون العدالة وأذنها، والشهادة بحسبانها دليل نفسي تخضع لمؤثرات قد تعترض النفس البشرية تجعلها تقرر غير الحقيقة أما عمدا أو سهوا، ولهذا رفع البعض شعار وجوب تأني القاضي في تقدير الشهادة، فالشهادة إذن هي تقرير لما يراه الشخص بعينه أو يسمعه بأذنه، وتلك هي الشهادة المباشرة غير أن هناك نوع اصطلح على إطلاق وصف الشهادة عليه تجاوزا وهي ما ينقله الشخص عن أخر أدرك الواقعة بإحدى حواسه تحت اسم الشهادة السماعية، وهناك ما يطلق عليه الشهادة بالتسامع أو بما يتناقله الناس وتلك هي الشهادة بالشائعة – بحسب "فاروق".
أحكام النقض ترى جواز الأخذ بالشهادة السمعية
ولا خلاف علي حق محكمة الموضوع في الأخذ بالشاهدة المباشرة متي انست فيها الصدق واطمأنت إليها، وإنما يدق الأمر بالنسبة للشهادة السماعية وكذا الشهادة بالتسامع، إذ اضطرب بشأنهما قضاء النقض بل خلط بينهما، ففي معظم الأحكام رأت محكمة النقض أنه يجوز لمحكمة الموضوع الاستناد إلي الشهادة السماعية التي ينقلها شخص عن آخر أدرك الواقعة متي رأت أنها قد صدرت فعلا ممن نقلت عنه، وأنها تمثل حقيقة الواقعة في الدعوي، وهو ما يفترض تحديد شخص من جري النقل عنه حتي يمكن التحقق بصدورها منه عند المنازعة، مثلما ورد في الطعن المقيد برقم 131 لسنة 82 قضائية.
أحكام أخرى للنقض ترى عدم جواز الأخذ بالشهادة السمعية
وفي أحكام أخرى رأت محكمة النقض أن الشهادة السماعية لا تكفي بمجردها دليلا كاملا، وإنما يجوز تعزيز الأدلة بها إذ يجب بناء أحكام الإدانة على أدلة قاطعة وفي اتجاه ثالث ذهبت إلي أن لمحكمة الموضوع الأخذ بأقوال منقولة عن آخر حتى ولو كان مجهولا متى اطمأنت إليها ورأت أنها صدرت حقيقة عنه وتمثل الواقع في الدعوي.
وهذا القضاء الأخير فيه نظر إذ يجعل مصائر الناس معلق علي الشائعات وتضحي أحكام الإدانة مبناها الظن والتخمين لا الجزم واليقين وهو مالا يجمل بمحكمة النقض أن تقرره، إذ مثل هذه الأقوال لا تنصب على الواقعة المراد إثباتها، وإنما تنصرف إلى رأي الناس فيما يتناقلونه عن الواقعة، فهي ليس شهادة على واقعة بل شهادة بشائعة، ومثل هذه الشهادة لا يمكن أن تبني عليها إدانة صحيحه ولا نعلم عن أي ادلة يمنك الحكم بها، فهل أصبحت الشائعة التي يتناقلها الناس من أن فلان قتل فلان دليلا على الإدانة في هذه الأيام؟ ثم كيف يرتاح وجدان القاض العادل الي خبر مجهول المصدر وكيف يتحقق من أنه يمثل حقيقة الواقع في الدعوي؟ ثم اليس القانون يوجب على المحكمة القضاء بالبراءة متي كانت الأدلة غير كافية على الإدانة؟ - الكلام لـ"فاروق".
أسئلة مشروعة حول الشهادة السمعية
ثم يحق لنا أن نتساءل أيضا أليس بناء حكم الإدانة علي خبر أو شائعة يتناقلها الناس دون تحديد مصدرها للاستيثاق من صحتها هو رجم بالغيب يجعل الدليل ظنيا، ومثل هذا الدليل لا يصح أن تبني عليه إدانة، إذ الإدانة لا تبني طبقا لمذهب النقض إلا علي الجزم واليقين لا علي الظن والتخمين، وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال؟ ثم يحق لنا أن نتسائل هل تخضع الشهادة بالتسامع لسلطة محكمة الموضوع في تجزئتها؟ بل يحق لنا أن نتساءل أليس الشهادة بالتسامع من جنس التحريات التي يستقيها رجل الضبط القضائي من مصادر سرية يرفض البوح بها تحقيقا للصالح العام؟ ثم أليس قضاء النقض مستقر علي أن التحريات هي مجرد قول لمجريها حتي يتحدد مصدر من نقلت عنه وهي لذلك لا تصلح بمفردها دليل للإدانة؟
ثم أن هذا القضاء ينطوي على تكليف بمستحيل، إذ لا ندري كيف سوف تتحقق محكمة الموضوع من أن الشهادة بالتسامع تمثل حقيقة الواقع في الدعوي، وأنها صدرت فعلا ممن نقلت عنه مادام أن من جرى النقل عنه مجهول؟ وهل يمكن العقاب على تلك الشهادة بسند أنها زور؟ إن ما تقرره النقض فيه نظر، لذا نهيب بمحكمة النقض أن تعدل عما قررته مستقبلا، لاسيما وأن الفقه مستقر على أن ما يتناقله الناس عن الواقعة دون أن يدركها اي منهم أو يحدد شخص من أدركها، وهي تسمي الشهادة بالتسامع لا تعد دليل ولا يعتد بها وهذا ما يراه جمهور الفقه.
رأى محكمة النقض قديما عن الشهادة السمعية: مجرد رواية
وقديما وصفت محكمة النقض تلك الشهادة بالرواية، وأنه لا يمكن التحقق من صحتها فقالت أن الأصل أن الشهادة التى يسأل الشاهد عن الكذب فيها أمام القضاء هى التى تكون لها في ذاتها قوة الاقتناع لابتنائها على عيان الشاهد ويقينه من جهة، ولقابليتها للتمحيص والتحقق من صحتها من جهة أخرى أما الشهادة التى لا ترجع إلا إلى مجرد التسامع والشهرة، فلا تعد شهادة بالمعنى المقصود في القانون لتعذر التحقق من صحتها، ولا يرد على ذلك بما للشهادة بالتسامع من اعتبار في بعض الحالات الاستثنائية، فإن هذا ليس من شأنه أن يغير طبيعة ما قيل على سبيل الرواية ولا يرفعه إلى مرتبة الشهادة التى فرض القانون العقاب على الكذب فيها، فإذا كانت الأقوال التى أدلى بها الشاهدان على ما هو ثابت بالحكم ليست إلا إنباء بما اتصل بعلمهما، أو نقل لهما فإن شهادتهما لا تتوافر فيها أركان جريمة شهادة الزور، طبقا للطعن رقم 567 لسنة 29 جلسة 1959/06/02.