أثار انتخاب المرشح الديمقراطي جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة تفاؤلا بين الأكراد في العراق وسوريا بشأن العالقات مع واشنطن، ويمكن ما لحظة ذلك من إرسال مسؤولي الأكراد في العراق وسوريا رسائل تهنئة فورية إلى بايدن، حيث أعاد انتخابه الثقة لهم في استعادة المساندة الأمريكية لهم، وهي ثقة افتقدوها خلال حكم الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي تخلى عن الدعم الأمريكي التقليدي للأكراد على الرغم من كونهم شركاء للولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهو ما شجع تركيا على توجيه عدة ضربات عسكرية لمناطق تمركزهم في الشمالين السوري والعراقي، فقد نفذت أنقرة أربعة عمليات عسكرية كبرى ضد الأكراد بمعدل عملية كل عام تقريبا هم: "درع الفرات" في 2016 و"غصن الزيتون" في 2018 و"نبع السالم" في 2019، و"مخلب النمر" في 2020، هذا إلى جانب الهجمات السريعة التي تشنها بين الفينة والأخرى.
ولا يجب أن نغفل هنا الإشارة إلى أن عملية "نبع السالم" في جرت وقائعها في أكتوبر 2019 وأسفرت عن مقتل عشرات المدنيين ونزوح مئات الأف، جاءت مباشرة عقب اتصال هاتفي بين أردوغان وترامب قرر بموجبه الأخير سحب 1000 جندي من القوات الأمريكية في الشمال السوري دون الرجوع إلى البنتاجون أو الكونجرس أو الخارجية، بما يمثل موافقة ضمنية وضوء أخضر من واشنطن لتنفيذ الهجوم.
ليس هذا فحسب، إنما يضاف إليه العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على النظام السوري بموجب قانون قيصر، والتي لم يستثني منها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، وهو ما أضر بها بشكل كبير.
وفي تركيا، تصاعدت حملات القمع ضد الأكراد وشملت عمليات استهداف وقتل ممنهج لعناصرهم، وإقالة رؤساء البلديات المنتخبين من الأكراد واستبدالهم بشخصيات موالية للنظام، وسجن الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صالح الدين دميرطاش واعتقال العديد من نواب الحزب بتهمة الانتماء إلى حزب العمال الكردستاني دون دليل، وحظر الأنشطة الثقافية للأكراد ومن ذلك المسرحيات باللغة الكردية بدعوى أن محتواها يخل بالنظام العام ومنع توزيع الكتب باللغة الكردية التي تحكي نضال الأكراد بتهمة أنها تدعو الإرهاب، فضال عن منع التدريس باللغة الكردية.
بايدن وتاريخ من الدعم للأكراد
على عكس إدارة ترامب التي قدمت دعما لتركيا في بعض الملفات وصمتت على سلوكيات أردوغان إزاء قضايا أخرى، يبدو أن أجندة العالقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة خلال إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن سوف تكون حافلة بالقضايا الخلافية، وقد تحتل قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الدينية مرتبة متقدمة على تلك الأجندة، ويعني هذا أن القضية الكردية ستكون في القلب منها. ويشعر الأكراد بالارتياح مع فوز بايدن ليس ألنه سيندفع نحو تأييد إقامة دولة كردية مستقلة وإنما لما يبديه من تفهم لحقوق الأكراد والدعم المتوقع أن يلاقوه من واشنطن في ظل إدارته، فضال عن الدور الذي قد يلعبه من تخفيف الضغط التركي عليهم، بالنظر إلى ضعف العالقة الشخصية بين بايدن وأردوغان فيما يتعلق بالتدخل السافر للأخير في الشؤون السورية.
وبصفة عامة، لكي نتمكن من تقديم رؤية موضوعية لنمط العالقات المحتمل بين بايدن والأكراد خلال الأربع سنوات المقبلة، فإنه يجب النظر من زاويتين، الأولى تاريخية نلقي من خلالها نظرة كاشفة لطبيعة العالقة بين بايدن والأكراد على مدار سنوات عمله السياسي كسيناتور في مجلس الشيوخ ثم نائبا للرئيس، أما الثانية فتتعلق بماُ يمكن أن يقدمه للأكراد مستقبلا في ضوء المعطيات المتاحة، ونبدأ بالنظرة التاريخية التي تبين حجم التعاطف الذي يوليه بايدن للأكراد، والذي يتجلى في الآتي:
• استنكار عملية الأنفال :1988 وهي إحدى عمليات الإبادة جماعية التي قام بها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ضد الأكراد في إقليم كردستان، حيث أبدى بايدن حينها–وكان سيناتور بمجلس الشيوخ وعضوا في لجنة العالقات الخارجية-استياءه من "إحجام الرئيس جورج بوش الأب عن طرد صدام حسين من السلطة، واهتمامه الغريب بالحفاظ على وحدة أراضي العراق، والسماح لصدام باستعادة مناطق الأغلبية العربية غير السنية، مما أدى إلى مذبحة قتل فيها عشرات الأف من الأكراد والشيعة".
• رعاية قرارات تدعو تركيا إلى الانسحاب من كردستان العراق: وتدعو إلى تسوية تفاوضية للصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، وذلك خلال التسعينيات من القرن الماضي.
• زيارته إقليم كردستان العراق في ديسمبر :2002 وكان حينها عضوا في مجلس الشيوخ وقد جاء إلى الإقليم عبر الحدود التركية بصحبه السيناتور تشاك هاجل، حيث القى استقبال حار من السكان المحليين الذين عبروا له عن حجم معاناتهم بقولهم إن "ما يتعلمه كل طفل كردي هو أن الجبال هي صديقنا الوحيد"، وهو ما قابله بايدن بقوله – خلال كلمة ألقاها أمام برلمان الإقليم- "الجبال ليست أصدقائكم الوحيدين"، في إشارة إلى دعم الولايات المتحدة لتطلعات الأكراد العراقيين، وتعهدها بتقديم الدعم لحكومة الإقليم، الذي وصفه بـ "بولندا الشرق الأوسط".
• المطالبة بحكم ذاتي الأكراد العراق: انضم بايدن عام 2007، في وقت كان ال يزال عضوا في مجلس الشيوخ، إلى السيناتور الجمهوري سام براون باك، رئيس اللجنة الفرعية المعنية بشؤون الشرق الأوسط التابعة للجنة العالقات الخارجية في المجلس، في رعاية قرار يدعو إلى إقامة نظام فيدرالي المركزي في عراق ما بعد صدام حسين، حيث تحدث القرار عن إنشاء ثالث مناطق حكم ذاتي في العراق، بما يتوافق مع دستور 2005، منطقة كردية وأخرى للعرب السنة وثالثة للعرب.
* تطوير علاقات قوية مع قادة كردستان العراق: في وقت كانت علاقته برئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، متوترة في كثير من الأحيان، طور بايدن عالقات قوية للغاية مع الأكراد، بما في ذلك الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني ورئيس حكومة إقليم كردستان السابق مسعود بارزاني. وتعود الصداقة بين بايدن وبارزاني إلى ما يقرب من عشرين عاما إلى حد أنه يعلم أسماء جميع أحفاده، وعندما التقيا في منتدى دافوس الاقتصادي عام 2015 أشار بارزاني إلى بايدن بأنه "صديق لأئمة الكردستانية".
•رفض الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا: والذي كان بمثابة ضوء أخضر من واشنطن أنقرة لشن هجوم على قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، حيث كتب بايدن في أكتوبر :2019 "ترامب باع قوات سوريا الديمقراطية - الأكراد والعرب الشجعان الذين قاتلوا معنا لسحق داعش - وخان حليفا محليا رئيسيا في الحرب ضد الإرهاب". كما أعرب أنتوني بلينكين، كبير مستشاري السياسة الخارجية لحملة بايدن الرئاسية، عن أسفه لغياب الوجود الأمريكي في سوريا والتخلي عن الأكراد.
ترتيبا على ذلك، لن تكون خطوة الدولة الكردية المستقلة مطروحة على أجندة بايدن، هو أمر نستطيع استجلاءه بسهولة من مواقف سابقة له منها عدم انتقاد صمت إدارة ترامب تجاه الهجوم العسكري الذي شنته حكومة بغداد على الإقليم ردا على قرار رئيسه السابق مسعود برزاني في 2017 بإجراء استفتاء للانفصال ،فضلا عن تحذيره عام 2007 لقادة أكراد العراق من السعي وراء الاستقلال لما سيترتب عليه من احتمالية اندلاع حرب شاملة مع تركيا وإيران. وستوعب بايدن مخاوف أنقرة من إقامة دولة كردية على الحدود التركية السورية، ما دفعه لتحذير وحدات حماية الشعب من إنشاء "جيب منفصل على الحدود" وحثها على الانسحاب إلى شرق الفرات، كذلك أكد خلال زيارته لتركيا في 2016 أن الأكراد لن يحصلوا على أي دعم أمريكي إقامة دولة مستقلة.
وبالتالي، فإن الدعم المتوقع أن تقدمه إدارة بايدن الجديدة للأكراد سوف يتعلق في مجمله بتخفيف الضغط الواقع عليهم :
•إبقاء القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا كحماية من أي هجمات تركية مستقبلية على تلك المنطقة، واستمرار الدعم المقدم لقوات سوريا الديمقراطية "قسد". وفي هذا الإطار، يرغب الأكراد في مضاعفة العدد الحالي من القوات الأمريكية والإبقاء عليها حتى يتم التوصل إلى حل سياسي للأزمة؛ لضمان القضاء على داعش تماما خاصة أن خطرهم ما زال قائما، فلديهم معسكرات في مناطق سيطرة النظام، ومخيمات عبر الحدود وفي صحراء العراق، وقادرون على تأمين التمويل اللازم وتجنيد المقاتلين وتدريبهم ونشرهم.
•تمويل مشاريع تحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا وزيادة عدد الخبراء المدنيين الأمريكيين لدعم هذه المشاريع إعادة تأهيل المجتمعات المحلية، ما يساهم في منع عودة داعش بها، ويمثل دفعة كبيرة لقوات سوريا الديمقراطية.
•تقليص فرص قيام تركيا بشن هجوم عسكري جديد على مناطق الشمال الشرقي السوري، إلى حدها الأدنى.
•الاستمرار في رعاية مفاوضات الوحدة بين المكونات الكردية السورية التي بدأها ترامب وال تزال متعثرة، وهو أمر لو حدث من الممكن أن يضعف من التنسيق بين المجلس الوطني الكردي وتركيا كما أنه قد يمهد للدفع بنظام حكم فيدرالي ضمن مفاوضات الحل السياسي للأزمة السورية يحصل بموجبه الأكراد على شكل من أشكال الحكم الذاتي، ويأمل الأكراد أن تدفع إدارة بايدن بهم في محادثات "جنيف" للحل السياسي.
•ويرغب الأكراد السوريين في أن تلعب واشنطن دورا في التوصل إلى سالم مع تركيا، وقد عبر مظلوم عبادي زعيم قوات سوريا الديمقراطية - خلال حوار مع موقع "المونيتور" - عن استعداده لإجراء محادثات سالم مع تركيا دون أي شروط مسبقة، على أن تتضمن كل الملفات العالقة بين البلدين بما في ذلك الأراضي التي تحتلها تركيا في عفرين ورأس العين وتل أبيض، وأزمة النازحين، معربا عن تفهمه الاعتبارات الأمن القومي التركي، واستعداده للتوسط بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني.
•إمكانية لعب دور في المفاوضات التي تجري بين حكومة كردستان العراق وبغداد لحل المسائل العالقة بما يمكن الإقليم من تحقيق الاستفادة القصوى من مواره الاقتصادية في ظل عالقة هادئة مع المركز
أما فيما يتعلق بأكراد تركيا، فهناك حالة من التفاؤل بقدوم بايدن إلى البيت الأبيض، الذي من المتوقع أن يطور عالقات مع حزب الشعوب الديمقراطي، وكان الرئيس المنتخب قد قال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز عام 2019 أنه سيدعم المعارضة للمساعدة في الإطاحة بأردوغان من سدة الحكم. لكن حالة التفاؤل تلك مصحوبة بالحذر بالنظر إلى أن إدارة أوباما -الذي شغل فيها بايدن منصب نائب الرئيس- لم تفعل الكثير لدعم محادثات السالم في تركيا التي جرت في الفترة من 2013 إلى 2015، ولم ترد على حملة أردوغان الوحشية ضد حزب العمال الكردستاني عندما انهارت المفاوضات، فضال عن أن نائبته كآمال هاريس، لم ترعى أو تشارك في رعاية أي مشاريع قوانين تتعلق بالقضايا الكردية في تركيا أو سوريا خلال عضويتها في مجلس الشيوخ منذ عام 2016، ومع ذلك، انتقدت انسحاب ترامب من سوريا في مناظرات تلفزيونية، ودعمت الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن.
وهناك بالفعل تيارا داخل تركيا يمثله النائب البرلماني عن حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، هوشيار أوز سوي، ال يعول كثيرا على أن يؤدي فوز بايدن إلى تحول جذري للغاية في العالقة مع الأكراد أو الضغط على حكومة انقرة الاستئناف عملية السالم مع حزب العمال الكردستاني والتوصل إلى تسوية تفاوضية للصراع الكردي الذي طال أمده وخلف أكثر من 50 ألف قتيلا. ويعتقد هؤلاء أن بايدن –ضمن خطته لعودة الحياة الطبيعية- سيعمل على تحسين العالقات مع أكراد سوريا والعراق الذين يمتلك معهم عالقات جيدة، بينما سيستمر في السياسة الأمريكية التقليدية، التي تنظر لتركيا باعتبارها حليف في الناتو، وهو ما سيشجع الأخيرة على الاستمرار في ترهيب المواطنين الأكراد.
ولكن على كلٍ، سيكون ملف الأكراد صداعا في رأس أردوغان والساسة الأتراك وسيتحول إلى ورقة تفاوض في أيدي الطرفين يضغط بها كل جانب في أي مفاوضات تتعلق بالقضايا العديدة على أجندة العالقات الثنائية بين البلدين ومن ذلك الدور التركي في الصراعات الإقليمية؛ السورية والعراقية والليبية، والنزاع في شرق المتوسط.
وتدرك تركيا أن بايدن الذي رفض تسمية وحدات حماية الشعب الكردية السورية بأنها جماعة إرهابية بسبب صالتها بحزب العمال الكردستاني، سيعمل على توثيق العالقات مع الأكراد والضغط على أردوغان وإدارته بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والأعمال الشنيعة ضد الأكراد في سوريا، وهناك احتمال ألن يتم فرض عقوبات على أنقرة بسبب هذه الممارسات.
ويبدو أن أردوغان بدأ في اتخاذ خطوات استباقية لمغازلة الأكراد وإظهار حسن النية، إذ قرر تعيين أفيكان نائبا لرئيس حزب العدالة والتنمية، ومن المعروف أنه على عالقة جيدة بالأكراد؛ حيث كان شخصية رئيسية في عملية السالم التركية مع حزب العمال الكردستاني، وفي وقت سابق، شغل منصب حاكم محافظتي باتمان وديار بكر ذات الأغلبية الكردية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة