جدل مثار بعد ظهور الدكتورة آمنة نصير فى فيديو تتحدث عن زواج المسلمة من غير المسلم، ولقد رفضتُ التعليقَ للمتصلين من الصحفيين والإعلاميين رغم محاولاتهم المتكررة، وبالرجوع إلى الفيديو: تبيّن أن الدكتورة آمنة نصير كلامها متناقض وغير واضح، فحين سألتها مقدمة البرنامج عن فتوى لها تجيز زواج المسلمة من غير المسلم قالت: غير المسلم الكتابى وضعى خطوطًا تحت الكتابى (مسيحى أو يهودى) هو صاحب دين يعبد الله لكنه على غير دين الإسلام، ولن يمنعها من مسجدها وصلاتها وصيامها كالمسلم إذا تزوج كتابية فلا يمنعها من كنيستها أو معبدها، وهنا قالت لها مستضيفتها: والأولاد يتبعون من؟ قالت: يتبعون الأب، فردت عليها: بس كدا الأولاد هيضيعوا مننا؟ قالت: أيوه هيضيعوا مننا، ولهذا السبب منع الفقهاء زواج المسلمة من غير المسلم، هذا نص الحوار تقريبا، وبنظرة لمحاولة فهمه: نراها فى البداية تفرق بين الكتابى وغير الكتابى، وهذا يفهم منه أنها تجيز لها الزواج من الكتابى خلافًا لغيره، وتُعلل لذلك أو تشترط ألا يمنعها عن عبادتها، وبدليل أنها تنسب الأولاد للأب، وهذا الذى يفهم من أول كلامها ناقضته حين تداخلت مستضيفتها بأن الأولاد سيذهبون إلى غير الإسلام فكأنها عدلت عن رأيها حين وافقتها وذكرت رأى الفقهاء المانع لهذا الزواج، وليتها استغلت الفرصة فحسمت رأيها بوضوح إن كانت تراجعت.
ومع احترامى للدكتورة آمنة نصير - فليس بينى وبينها إلا الاحترام المتبادل- فسأتناول الموضوع تناولًا علميًّا مجردًا على غير رغبة منى، حيث لا أستطيع التنصل من الرد الذى يلح علىّ ممن يهتمون بالحديث عنه لأذكر رأيى فيه، وحتى لا ينسب لى كلامٌ لم أقله أصلًا فضلت أن يكون مكتوبا بخط يدى فى النقاط التالية:
الأولى: هذه القضية وأخواتها من القضايا المحسومة فى شرعنا بإجماع أهل الاجتهاد من سلفنا الذين امتلكوا شروط الاجتهاد وأدواته، وليست محلًا للنظر من المعاصرين، فهى غير مرتبطة بزمان ولا مكان ولا تغير أعراف الناس، حتى يتجدد النظر فيها كلما تغير عامل من هذه العوامل المؤثرة فى اتجاه الفتوى، ولا يعقل أن مسألة أجمع فيها فقهاء العصور سيتغير الحكم فيها باجتهاد شخص حتى لو فُرِض أنه من أهل الاجتهاد، فالمستقر عند العلماء أن إجماع علماء عصر على حكم فى مسألة إن تغيّر فإنما يكون بإجماع جديدٍ على رأى من يقولون بإمكانية انعقاد إجماع من فقهاء عصر على خلاف إجماع علماء عصر سابق حيث منعه البعض أصلًا، وزواج المسلمة من غير المسلم انعقد الإجماع منهم على عدم جوازها.
ثانيا: الحديث فى مثل هذه المسألة فتح لباب فتنة لا تنقصنا، فلم يطلب غير المسلمين فتوى تجيز لهم الزواج من المسلمات، وربما يرفضونها إن هى صدرت امتثالًا لأحكام شرائعهم، ولكن الحديث عن عدم الجواز يثير حفيظتهم، ويوغر صدورهم فى وقت أحوج ما نكون لتقوية روابط الصلة واللحمة بيننا وبينهم.
ثالثا: أعتب على الدكتورة آمنة نصير التصدى لقضايا محسومة تثير الجدل كقضية توريث المرأة مثل الرجل، وقضيّة الحجاب .. وهى -مع احترامى لها- ليست مؤهلة للاجتهاد فى المسائل القابلة للاجتهاد فضلًا عن المسائل المحسومة التى تقبل الاجتهاد حتى من القادرين عليه.
رابعا: يُدلل على ما ذكرت هذا المنهج المتخبط الذى سلكته فى حوارها فلا هى سلكت المسلك الفقهى الأصولى، ولا حتى العقلى مع أن تخصصها يرجع فى الأساس إلى العقل حتى إن الاستدلال فى علم العقيدة يقدم فيه الاستدلال من العقل على النقل، لأنه يتعرض لإقناع غير المعترفين بالأديان ورسلها بل ومن ينكرون وجود الله أصلًا، فهو من العلوم الضابطة لمنهجية التفكير العقلى والتعامل مع النص الشرعى، ولذا فإن الأدلة فى العقيدة تبنى من مقدمتين صغرى وكبرى توصلان إلى النتيجة، وفى هذا الحوار لا نراها التزمت المنهجية الفقهيّة والأصوليّة القائمة على الرجوع إلى القرآن والسنة والإجماع واجتهادات السلف، ولذا فإن مثل هذه الأقوال لا تعتبر فتاوى أصلًا وإنما هى آراء شخصية، وهذا لا يقلل من شأنها كأستاذة فى تخصصها ولا مكانتها المجتمعيّة، ولذا أنصحها بترك مجال الإفتاء لأهل الاختصاص، واستخدام قدراتها فى مجال تخصصها لنفع وتصحيح كثير من المسائل العقدية المشوشة والمشوهة فى أذهان الشباب.
خامسا: عند طرح أمثال هذه المسائل من قبل البعض والذى قد يكون لمحاولة فهم الحكمة وقد يكون لإثارة الجدل لا غير، فإن علينا كعلماء أن نتناولها تناولًا يناسب حال السائل وثقافته، ويزيل الشبهة إن وجدت عند السائل، ويقطع الطريق على أصحاب النوايا غير السليمة، مع استخدام الأدلة المناسبة لعقيدته وثقافته ولو كانت من درجة أدنى مما نعتقده فى شريعتنا، فاعتقادنا كمسلمين أن الدليل من القرآن سيد الأدلة تليه السنة المشرفة، ولكن حين نتحدث مع غير المسلمين فالدليل والإقناع العقلى مقدم كما سبقت الإشارة إليه، ولعل الجواب الشافى الذى ذكره الإمام الأكبر فى البوندستاج-البرلمان الألمانى- والذى قبله الجميع، ولم يعلق عليه أحد حتى بعد فتح الإمام الباب لمن أراد أن يراجعه خير نموذج لهذا المسلك، حيث لم يذكر آية أو حديثًا شريفًا، وإنما استخدم الحجة العقليّة التى تناسب المقام، فقد ذكر فضيلته أن الفرق بين زواج المسلم من الكتابية، وزواج المسلمة من غير مسلم، أن المسلم يؤمن برسولها وأن دينه يأمره بتمكينها من أداء عبادتها، وأن من البر أن يصاحبها إلى كنيستها أو معبدها حتى تؤدى عبادتها ثم يعودان معًا إن استطاع، وهذا يزيد الألفة بينهما فتدوم العشرة، بخلاف غير المسلم فهو لا يؤمن برسولها بالكيفية التى تؤمن هى بها، فهو إما لا يؤمن به أصلًا وينكر رسالته، وإما يؤمن به كرسول للعرب خاصة دون بقيّة الناس، كما أن دينه لا يطالبه بتمكين المسلمة من أداء شعائر دينها، ولذا تتضرر المسلمة من عدم تمكنها من أداء عبادتها على الوجه الأكمل كما يأمرها دينها، فتنشأ العداوة بينهما، فمنع زواج المسلمة من غير المسلم هى لمصلحة استقرار الأسرة ودوامها.
وهذا الذى ذكره الإمام الأكبر يؤيده أن إسلامنا منع زواج المسلم من غير الكتابيات ممن لا يؤمن بدين سماوىّ؛ لأن ديننا لا يجيز لنا أن نقرهم على السجود لتمثال ولا عبادة النجوم أو النار، ومنع الزوجة من عبادتها كما تعتقدها يوجد البغض الذى منع من أجله زواج المسلمة من غير المسلم فمنع مثله.
سادسا: القول بأنه لا يوجد نص فى كتاب الله يمنع زواج المسلمة من غير المسلم، فهذا كلام غير دقيق يعرفه من يطالع تناول المجتهدين لهذه المسألة، وعلى فرض صحته فإنه لا يوجد نص فى كتاب الله ينص على عدد الصلوات وركعاتها وسرها وجهرها، ولا على تفاصيل كثيرة متعلقة بالحج والصيام والزكاة، وتلك هى أركان الإسلام ناهيك عن مسائل فرعيّة لا تحصى، والقول بأن عدم وجود نص يعنى الإباحة يهدم قواعد النظر ويشكك فى اجتهادات السلف وقدرتهم على فهم نصوص التشريع، وهذا لا يقول به عالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة