من جديد عادت قضية التطبيع مع إسرائيل إلى الواجهة. يبدو الأمر معقدا من النظرة الأولى، بين واقع سياسى لم يعد كما كان قبل عقود، وتاريخ محمّل بالالتباس والتوتر مع الدولة العبرية، وقضية مفتوحة تبحث عن حل عادل لملايين الفلسطينيين الذين اغتُصبت أرضهم ونالهم كثير من التنكيل!
لا يُمكن بطبيعة الحال القفز على موقف المنحازين للقضية الفلسطينية، أو الساعين إلى استعادة حقوق أهلها الضائعة، ومن هنا يصعب رفض أو استهجان الموقف الشعبى العربى من الملف برمّته، لكن فى المقابل يحتاج الأمر نظرة واقعية فى ضوء متغيرات الساحة الإقليمية وتطورات قضية الحل النهائى، ونظرة المجتمع الدولى للصراع الفلسطينى الإسرائيلى وتعاطيه مع تفاصيل المشهد. يُمكن القول من دون تبسيط أو استفزاز أو تمييع للقضية الإنسانية والأخلاقية، أن عدم ضبط النظرة لمسألة العلاقات السياسية فى ضوء المستجدات، جعل كثيرا من المواقف المضادة لإسرائيل تضيع هباء، أو تبدو كما لو كانت صراخا فى الفراغ!
واقع الحال أن إسرائيل التى كانت كيانا غير شرعى قبل سبعة عقود من الآن، باتت دولة معترفا بها عالميا، ولديها مشروعية يحترمها المجتمع الدولى، بينما الطرف الأضعف الذى يبحث عن اعتراف هم الفلسطينيون للأسف، ومن ثمّ فإن قبولنا أو رفضنا لإسرائيل لم يعد عنصرا حاكما أو ذا قدرة على تغيير مكونات المعادلة، وربما يكون أكثر فائدة لفلسطين ومواطنيها أن نتعاطى مع الأمر بصورة أكثر موضوعية من أجل الفوز بدولة مستقلة، أيا كانت الكُلفة، ليكون الصراع مؤسسا على أرضية متكافئة من الندية والمراكز القانونية المتساوية، بدلا من صورته الحالية التى تمنح إسرائيل كل شيء أمام العالم، فى الوقت الذى تسلب فيه الفلسطينيين كل شيء أيضا للأسف!
ربما تمتلئ قلوبنا هنا، في المنطقة العربية، برصيد تاريخى وإنسانى وعاطفى، يجعل من الصعب علينا أن نُعيد النظر إلى إسرائيل من وضعية الدولة الطبيعية، لكن فى المقابل فإن المجتمع الدولى المتخلص من تلك الروابط والشحنات العاطفية، أو المنحاز لمنطق القوة والأمر الواقع لو شئنا أن نرى الأمور على تلك الصورة، ينظر إلى إسرائيل بوصفها دولة مدنية متقدمة ذات حضور سياسى واضح فى مجالها وعلى الخريطة الدولية، ربما لا تكون الصورة حقيقية تماما، لكن ذهب بنا الواقع إلى تلك المساحة للأسف، وبات المراقبون من كل الدنيا يرون المشهد صراعا بين دولة وجماعات دينية أو عرقية، وهى صيغة ليست فى صالح فلسطين وقضيتها، وليس من الجيد أن تستمر هكذا طويلا، لأنها تعنى مزيدا من تآكل الرصيد ومشروعية المظلمة الإنسانية لصالح تعظيم الفوائد لبعض الدول والمجموعات المتربحة من التجارة بالقضية والرقص فوق دماء وأرواح أهلها!
من تلك النقطة تبرز الحاجة إلى تعاطٍ مُغاير مع خارطة فلسطين بكاملها، سواء مع المساحة التى نراها كيانا مغتصبا ويعتبرها العالم دولة طبيعية ذات مشروعية، أو مع المساحات المحتلة أو المنهكة بصراعات داخلية بين القوى والفصائل الفلسطينية. نحتاج إلى إعادة حصر مكونات المشهد، وترتيب أوراق قوتنا ونقاط ضعفنا، واستغلال كل فرص الضغط المتاحة من أجل الدفع فى اتجاه الحل، أو إعادة تخطيط الصراع من جديد بصورة أكثر توازنا وعدالة.
قبل نحو 17 سنة أطلق العاهل السعودى الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، مبادرة سلام عُرفت باسم "المبادرة العربية"، حصلت على إجماع الدول الأعضاء بالجامعة العربية، ومؤدّاها أن المجتمع الإقليمى جاهز للتعاطى وتطبيع العلاقات مع إسرائيل حال الوصول إلى حل عادل للقضية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. منذ ذلك التاريخ لم يتغير المشهد كثيرا إلا فى مزيد من رسوخ قدم إسرائيل فى المشهد العالمى، ومزيد من الضياع والتشتت الفلسطينى، لا سيما بعد انتخابات العام 2006 وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة!
اليوم نجد أنفسنا مضطرين إلى العودة للوراء، حالمين فى أفضل الظروف باستعادة ما توصل إليه الرئيس الراحل أنور السادات من مكاسب للفلسطينيين على هامش مفاوضات السلام المصرية الإسرائيلية، وبينما نواصل النظر إلى إسرائيل بوصفها كيانا لا وجود له، يرى العالم وجودها ولا يرى فلسطين، ويستمر صراخنا فى الفراغ لا لشىء إلا لأننا نُدمن إضاعة الفرص، ولا نُحسن اللعب بالأوراق التى فى أيدينا!
خلاصة القول، قد يكون منطقيا أن يقف العوام على تل العداء التاريخى، وأن ينفوا وجود إسرائيل فى خيالهم بينما يراها العالم واقعا، لكن هذا الموقف يبدو عاطفيا وأقرب إلى التطهر وإراحة الضمير، لكنه فى النظرة الواقعية لا يُحقق مصالح الفلسطينيين، بل على العكس يُشكّل ضررا واقعيا مباشرا، وللأسف فإننا إذا ظللنا على تلك الحالة من التسطيح وحروب الشعارات، فإن القضية لن تخطو إلى الحل، وسيظل هتافنا صراخا فى الفراغ. ليس القصد أن نتجه إلى التطبيع الكامل، ولا أن نُجبر الناس على ما يرفضونه، ولكن أن نكون أكثر واقعية مما كُنّا عليه، لا سيما أننا جربنا الخيال والشعارات عقودا ولم نصل إلى شيء، ومن ثمّ فإن كل معركة تقودها الحناجر من دون رؤية أو هدف أو مسار عاقل، أقرب إلى التجارة ودغدغة العواطف والابتعاد بالقضية فاصلا جديدا عن فرص استعادة عافيتها أو قدرتها على التلويح للعالم وتأكيد أنها قادرة على الحياة مع التغيرات، ومستعدة لاستيعاب التطورات وتوظيفها لتحقيق مصالحها واستجلاب حقوقها العادلة. نحتاج إلى أن نكون أكثر إخلاصا للعقل، حتى نكون مخلصين للقضية، وحتى لا يكون بكاؤنا الملتهب صراخا فى الفراغ!