نجحت الدولة المصرية فى إجراء الاستحقاق الانتخابى لمجلسى النواب والشيوخ على الرغم من ظروف جائحة كورونا التى تجتاح العالم حاليا، ولقد أثبتت الحكومة بجدارة أنها قادرة على تخطى أى أزمة طارئة فى ظل إدارة العملية الانتخابية بأمان، وأسدل الستار منذ أيام على الاستحقاق الدستورى الأهم فى الحياة التشريعية فى مصر حيث أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات النتيجة النهائية لانتخابات مجلس النواب، لكى يتم إغلاق صفحة انتخابات مجلس النواب، ومن قبلها انتخابات مجلس الشيوخ، وخلال الأيام القليلة الماضية توافد نواب الدلتا وغيرهم ممن تم انتخابهم على مقر البرلمان لتسجيل أسمائهم وإنهاء إجراءات التحاقهم بالمجلس تمهيد لانعقاد أولى الجلسات فى يناير القادم.
ومن خلال متابعتى لسير العملية الانتخابية وما سبقها من تنسيق بين الأحزاب لاحظت أن التنسيق بين الأحزاب والدخول فى تحالفات انتخابية استعدادا لخوض الاستحقاقات الدستورية كان ظاهرة ملفتة عكست رغبة المصريين فى العبور الحر على طريق الديمقراطية الحقيقية، حيث بدت المنافسة على أكبر عدد ممكن من مقاعد المجالس المنتخبة وإنقاذ الحياة الحزبية من حالة الركود الراهنة، ولقد بدا المشهد الانتخابى فى شكل عرس انتخابى حقيقيى لخص التفكير الجاد والتنسيق بين الأحزاب فيما بينها لتشكيل تحالفات حزبية يمكنها المنافسة بقوة فى السباق الانتخابى، وهو ما حدث بالفعل.
لقد بدت التحالفات فى البداية تشجع الأحزاب الصغيرة على المشاركة فى الانتخابات وضمان تمثيل نواب لها داخل المجالس المنتخبة، ومن ثم كان على القوى القريبة فى الفكر والرؤى والأهداف التحرك نحو الائتلاف فى الاستحقاقات الانتخابية، وربما جاء هذا التفكير نتيجة أن المرحلة الراهنة تتطلب من جميع القوى السياسية الوطنية ضرورة عقد حوار جاد حول فكرة التحالف فيما بينها، وتحويلها لواقع ملموس قبل الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما مثل اختبارا حقيقيا أمام الأحزاب والقوى السياسية فى أن تساعد نفسها لكسر حالة الجمود التى تعيش فيها من خلال تحالف القوى القريبة فى الفكر وتشترك فى الأهداف وخوض الانتخابات معا.
وظهر من بداية السباق الانتخابى أن الرئيس عبد الفتاح السيسى لديه اهتمام بالعملية الديمقراطية والتعددية الحزبية، لإيمانه بأن الإصلاح السياسى مرتبط بحركة الجماهير والأحزاب، ووجد أن الانتخابات فرصة للقوى الحزبية للعودة إلى الشارع وكسب ثقته مرة أخرى من خلال برامج تعبر عن طموحاته، ومن هنا جاءت فكرة إن التحالفات الانتخابية تقوى الأحزاب وعلى جميع القوى الحزبية المتقاربة فى الفكر والرؤى التنسيق فيما بينها والدخول فى تحالف تخوض من خلاله الانتخابات، استنادا إلى أن الحياة السياسية فى مصر فى حاجة إلى أحزاب قوية، تكون قادرة على التعبير عن طموحات المواطنين من خلال برامج حقيقية يمكن تنفيذها على أرض الواقع وليس مجرد شعارات.
ويبدو ملحوظا فى قلب المشهد الانتخابى أن الأخذ بنظام القائمة النسبية فى الانتخابات البرلمانية (مجلسى النواب والشيوخ) ساهم إلى حد كبير فى نجاح فكرة التحالفات السياسية بين الأحزاب القريبة فى الفكر وقد كانت تلك نقطة إيجابية وجيدة للغاية كما عكسته العملية الانتخابية، بل إنه نظام ساهم إلى حد كبير فى تمثيل أقوى للأحزاب فى المجالس النيابية، وهو ما انعكس بالضرورة على تقوية الحياة الحزبية، التى مرت بسنوات من عدم الاستقرار والانقسام، نظرا لأن الساحة السياسية تكتظ بأكثر من 100 حزب، لم تلعب دورها المنوط بها فى تنمية الوعى السياسى فى المجتمع، ولم تتمكن من التمثيل النيابى المطلوب، والانتخابات التى جرت كانت فرصة حقيقية للأحزاب لإثبات نفسها، وهو ما تجسد واقعيا بعد الانتهاء من ماراثون انتخابات مجلس الشيوخ، حيث أصبح هناك 17 حزبا سياسيا ممثلا داخل (مجلس الشيوخ) الغرفة الثانية المعاونة لمجلس النواب، وحصل حزب مستقبل وطن على نصيب الأسد من مقاعد مجلس الشيوخ.
ومن قلب المشهد الانتخابى الذى يؤكد أنه رغم جائحة كورونا تشغل العالم حاليا إلا أن مصر استطاعت أن تقيم عرسا ديمقراطيا حقيقيا، تبدو لى عدة ملاحظات جديرة بالتحليل فى انتخابات مجلس النواب، أولا : زيادة عدد المتنافسين فى الانتخابات حيث قبلت الهيئة الوطنية للانتخابات أوراق أربعة آلاف وستة مترشحين فى دوائر النظام الفردي، وثمانى قوائم فى الدوائر المخصصة لنظام القائمة، ضمت 568 مترشحًا، كما لوحظ أيضا زيادة عدد المرشحين المسيحيين، حيث تقدّم للانتخابات العامة 19 مرشحا مسيحيا، من بينهم كاهن كنسى، وهو ما يمكن عده انعكاسا للإصلاح الذى تقدّمت به القيادة السياسية لإصلاح العلاقة بين المسيحيين والسياسة فى مصر.
ثانيا كانت المناظرات السياسية - التى شهادتها على القنوات الفضائية - تقدم عددا من المرشحين فى الانتخابات بمبادرة عقد مناظرات سياسية مع المنافسين على نفس الدائرة من أجل عرض آفاق سياسية يمكن أن تجذب أصوات الناخبين، كان أغلب هذه المبادرات فى دوائر بعينها فى القاهرة الكبرى، لكن رغم ذلك فإن هذه الظاهرة لم تنصرف إلى عدد أكبر من الدوائر الانتخابية لتعطى زخما كبيرا للعرس الديمقراطى الذى يحدث على أرض مصر فى طورها الجديد.
ثالثا : هناك ظاهرة أخرى جديرة بالملاحظة وهى أن اتحادات الشباب النوعية لم تنعزل عن المشهد الانتخابي، بل بادرت بتقديم مبادرات تدريبية للشباب من أجل التوعية بكيفية المشاركة فى الانتخابات البرلمانية والمحلية، وكذلك كيف يصبح الشباب أعضاء نقابة فعالين فى نقاباتهم، وأبرز هذه الاتحادات كان الاتحاد العام لعمال الشباب التابع لوزارة الشباب والرياضة، ولكن أيضا لم تنصرف هذه الظاهرة إلى جميع الاتحادات النوعية المختلفة.
رابعا: مناصفة مجلس النواب بين القائمة والفردى كانت ظاهرة لافتة للنظر، ففى قانون انتخابات المجلس النواب لعام 2014، كان المخصص لمقاعد الفردى 448، بالإضافة إلى 120 مقعدًا للقوائم، بالإضافة إلى 28 يتم تعيينهم من رئيس الجمهورية، لكن فى التعديل الجديد للقانون تم تقسيم المجلس إلى نصفين متماثلين "248 مقعدًا للفردي، ومثلهم لمقاعد القائمة".
خامسا : لأن المرأة المصرية أصبحت تلعب دورا مهما فى الحياة السياسية وأثبتت كفاءتها فى العمل العام بتولى مسئولية بعض الوزارات والمحافظات ومساهمتها الفعالة فى الأنشطة المختلفة من خلال جمعيات المجتمع المدنى، فقد تمت زيادة نسبة (كوتة) المرأة، وحصلت المرأة بالفعل على نسبة 25% من البرلمان فى التعديلات الدستورية الجديدة فى 2019، وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات كانت نسبة النساء فى البرلمان المصرى فى عام 2012 هى 2%، ووصلت إلى 15% فى برلمان عام 2015، والتى مثلت حينها أعلى نسبة تمثيل للمرأة على الإطلاق فى تاريخ البرلمان المصري، وحققت أكثر من نسبة 26% فى الانتخابات الأخيرة، مع ملاحظة أيضا ترشيح زوجات الشهداء داخل القوائم المطلقة مما منح اعتبارًا لهذه الشريحة الجديدة من المجتمع المصرى "أسر الشهداء".
سادسا: اتجهت الانتقادات من النخب القانونية فى مصر لتفعيل نظام القائمة المطلقة فى الانتخابات رغم وجود نظام (الكوتة) للفئات الاجتماعية مثل الشباب والمرأة، الأمر الذى يثبت أن هناك حاجة لدى المجال العام فى مصر لفهم مدى أهمية نظام القائمة المطلقة بالشكل الذى يبرر إقراره رغم الانتقادات التى وجهت إليه، ورغم الانتقادات التى وجهت للإبقاء على نظام القائمة، لكن اتضح بعد نتائج الانتخابات أن هنالك بعض الأهداف التى تبرر الأمر وتدفعه باتجاه العمل على بناء حياة سياسية رشيدة فى مصر.
وهو ما جاء على النحو التالي: تقليل هوامش الخطأ فى نسب التمثيل، فلا تضمن القوائم النسبية تمثيلا ملائما وعادلا لجميع الفئات الاجتماعية المصرية، خاصة بالنسبة لفئة الشباب الذين لوحظ تمثيلهم القوى بحسب النتائج، رغم أن هناك تلعب عوامل أخرى فى تحديد اختيارات الناخبين مثل السمعة السياسية للمرشح التى تضعف بالنسبة للشباب بسبب حداثة عهدهم بالعمل السياسي؛ كما أنه ليس من الضرورى أن يضمن الحزب أو نظام الكوتة وحده هذا التمثيل، ومن هنا فقد استهدف نظام القائمة المطلقة تقليل هوامش الخطأ التى قد تحدث فى تمثيل الفئات الاجتماعية الأهم تقريبا فى الحياة السياسية وهى فئة الشباب، الذين يمثلون بين سن 25 إلى 40 مجموع 26% من المجتمع المصرى.
سابعا : جاء توحيد التيارات السياسية المختلفة مشجعا قويا على القائمة المطلقة التى ساهمت فى دمج مجموعة من الأحزاب والتيارات السياسية والأيديولوجيات المختلفة ضمن مظلة ائتلافية واحدة، ومن ثم دفعت الأحزاب للمواءمة والاتفاق فيما بينهم من خلال المباحثات والتفاوض على تدشين قائمة واحدة تضمن لهم فوزا انتخابيا، فلطالما عانت الحياة الحزبية فى مصر منذ 2011 من تضخم حزبى ملحوظ، أى زيادة عدد الأحزاب السياسية دون تقديم أدوار مجتمعية وسياسية تبرر هذا العدد الضخم، وربما هذا يفسر تلك الدعوات الصادرة عن رئيس الجمهورية لتعزيز ظاهرة الدمج الحزبي، أى ضم أحزاب متعددة فى كيان سياسى واحد، وبالضرورة هذا ما يبرر وجود كيان سياسى صاعد، مثل تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين التى تقدم هذا النموذج.
ثامنا : يأتى ضمن الأهداف الاستراتيجية للدولة المصرية فى مسعاها لبناء الحياة السياسية خلق جبهة وطنية (أو اصطفاف وطنى) يعمل على تحقيق مستهدفين أحدهما : تعزيز التماسك المجتمعى للشعب المصرى الذى يحول دون إحداث أى اختراقات ترمى إلى تشويش الوعى السياسى للمصريين، والثانى دفع المشروعات القومية قدما، وتحييد كافة العراقيل التى يمكن أن تجابهها لعوامل أيديولوجية متناحرة؛ ومن ثم الوصول إلى الهدف النهائى وهو بناء (الدولة الوطنية) التى تكفل لنا الانتقال الآمن إلى عمليتى التحديث والتنمية.
وعلى الرغم من كل ما سبق من ظواهر إيجابية تصب فى مصلحة الديمقراطية الحقيقية فى مصر فإن الفترة المقبلة فى عمر البرلمان المصرى تبدو لى صعبة للغاية، لأن البرلمان مطلوب منه عدة أدوار غير تقليدية، لذا ينبغى أن يكون هناك دورات لمدة بسيطة تدريبية حتى يكون لدى أغلب الأعضاء وعى وقدرة أكبر على فهم الملفات الخطيرة والخاصة بالأمن القومي، خاصة أنه ينتظر من البرلمان القادم فتح ملفات عالقة، ومشاريع قوانين تم إرجاؤها، واستكمال بنية تشريعية والتزامات دستورية، وغيرها من نقاط التماس بين الحكومة والبرلمان.
فكما نعلم: هناك ما يقرب من خمسين قانونا تنتظر مناقشة نيابية من أجل سنها مثل: (قانون الأحوال الشخصية، وتنظيم الإفتاء، وقانون الإيجارات القديمة، والإجراءات الجنائية، والهيئات القضائية، وإنشاء مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية، يقوم على شئونها المشتركة)، وربما من أهم هذه القوانين، هو قانون المحليات، أو قانون الإدارة المحلية، ويرجح ترتيب قانون المحليات ضمن الأولويات الأولى فى أجندة البرلمان الجديد، كون انتخابات الإدارات المحلية هو الاستحقاق الدستورى الثالث والأخير ضمن مشهد الحياة السياسية فى مصر، كما تعتبر الإدارات المحلية هى الضلع الثالث فى مثلث السلطة التنفيذية بعد الرئيس، والحكومة.
إجمالا، يمكن القول إن التفاعلات الملحقة بالمشهد الانتخابى لمجلس النواب ستسهم فى استكمال مشروع الدولة المصرية فى بناء حياة سياسية رشيدة من أجل تحقيق مستهدفها الاستراتيجى وهو بناء الدولة الوطنية، أى الانتقال إلى مرحلة التحديث والتنمية، وفضلا عن كل ذلك فإن البرلمان منوط به الإسهام فى توسيد دعائم الديمقراطية ودعم السلام الاجتماعى والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة وتعميق النظام الديمقراطى وتوسيع مجالاته من خلال دراساته واقتراحاته فى هذا الشأن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة