قرأت لك.. "تكوين مصر" محمد شفيق غربال: مصر هبة المصريين

الأربعاء، 26 فبراير 2020 07:00 ص
قرأت لك.. "تكوين مصر" محمد شفيق غربال: مصر هبة المصريين تكوين مصر
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نواصل قراءة مشروع "الهوية" الذى أعدته الهيئة العامة لقصور الثقافة لإعادة كتب تتعلق بشخصية مصر ونتوقف اليوم مع الكتاب الثامن فى السلسلة وهو كتاب "تكوين مصر " لـ محمد شفيق غربال.

 تكوين مصر
 
والكتاب صغير الحجم صدرت طبعته الأولى فى عام 1957، وفى مقدمته يقول محمد شفيق غربال تحت عنوان مصر هبة المصريين "هذا الحديث بداية سلسلة من الأحاديث ترمى إلى عرضٍ متصل لتاريخ مصر خلال العصور الماضية، وموضوعها تكوين مصر، وسوف نسلك إلى ذلك طريقين:
 
وسنحاول — أول الأمر — أنْ نعالج نواحى مختارة، وموضوعات مُنتخبة، مثال ذلك: التفاعل فى تاريخ مصر بين مبدأى الاستمرار والتغير، وعوامل التماسك الاجتماعي، ومكان الفرد فى المجتمع، وأوجه التباين بين المدينة والريف.
 
ثم نعود فنعالج الموضوع بطريقةٍ أخرى؛ أى من ناحية دراسة اتصالات مصر بالمجتمعات الأخرى الكبيرة، وكيف أثَّرت مصر فى عالم العهد القديم، وفى الحضارة الهيلينية والمسيحية، ثم الإسلام فالعالم الغربي، وكيف تأثرت بكل هؤلاء.
 
وقد اتخذت عنوانًا لحديثى الأول: «مصر هبة المصريين»، وليس مرَدُّ ذلك إلى معارضة القول المشهور لأبى التاريخ — هيرودوت — حبًّا فى المعارضة؛ ولكن لتوكيد الناحية، أو الزاوية التى سوف نعالج منها الموضوع؛ ذلك أننى أريد أنْ أؤكد عمليات الخلق والنمو، والمحافظة التى نوجزها فى العنوان: "تكوين مصر"، كما أريد أنْ أؤكد أنَّ هذا "التكوين" كان من صنع جماعة من الناس — المصريين — ومن ثم كان العنوان: "مصر هبة المصريين"، وأخيرًا أريد أنْ أؤكد ما فى هذا النتاج، نتاج هذا الخلق — مصر — من صفات الشخصية والرسوخ والانفراد بالذات، هذا النتاج الذى أثَّر بدوره فى تكوين المصريين، ولن تكون مصر التى نعنى بها مصر فى عصرٍ معين، بل خلال العصور كلها، وهذا على الرغم من أننى أعرف أنه ليس فى مقدور الرجل منا أنْ يحيط بالأدوات والدراسات كافة، اللازمة لكل قسمٍ من أقسام تاريخ مصر المعروفة: ألا وهى العصر الفرعوني، ثم اليونانى والرومانى فالإسلامي، ثم العصر الحديث، دع عنك الإحاطة بها جميعًا، بيد أنَّ الإخصائي، والقارئ غير الإخصائي، كلاهما يجد متعةً ذهنية ومغنمًا فى آنٍ واحد لو حاد بين الفينة والفينة عن طريق التخصص؛ الطريق الضيق، واضعًا نصب عينيه أنَّ هناك «مصر» دائمًا، وأنها تسمو فوق هامات الحقب والعصور.
 
ولكن هل هناك حقًّا شيء كهذا؟ هل هناك ما يبرر استخدامنا مدلولات: «مصر» و«الصين» وما إليها؟ وهل استخدام تلك المدلولات لكى تمثل شيئًا ماديًّا أمر مشروع؟ أو أنَّ ذلك لا يعدو أنْ يكون مجرد تسمية، أو يكون من نسج الخيال، أو الوهم؟
ليس هنالك شىءٌ من ذلك، إنَّ مصر أرض شكَّلتها الطبيعة، وشكَّلها الإنسان شيئًا له ذاتيته وأهميته، وهى وطن مجتمع من بنى الإنسان تربط بعضهم ببعض روابط مادية وأدبية، إنها وطنٌ مجتمع مغاير لمجتمعات بشرية أخرى.
 
ولنتناول الآن "المصريين" الذين قلت: إنَّ مصر كانت هبتهم.
 
لن ألقى بالًا للمسائل المتعلقة بأصلهم أو جنسهم؛ ذلك لأنى أعنى بالمصرى كل رجل يصف نفسه بهذا الوصف، ولا يحس بشيءٍ ما يربطه بشعبٍ آخر، ولا يعرف وطنًا له غير هذا الوطن، مهما كان أسلافه غرباء عن مصر فى واقع الأمر.
 
ومما هو جديرٌ بالذكر أنه مهما تعددت الأصول فقد كان هناك طابع «مصري» تشكل فى هذه البيئة المصرية، ولست أعنى بالطابع السمات الجسمانية، بل أعنى موقفًا معينًا من الحياة.
 
فلا يعنينى إذن أنْ أبحث فى بقعةٍ ما من بقاع مصر عمن يسمُّونهم ذرارى قدماء المصريين، وبعض من يعنيهم هذا البحث يظنون أنهم يعثرون عليهم فى ريف مصر، على افتراض أن الريف كان أقل نواحى المجتمع المصرى تأثرًا بالتغير والتبدل، أو لأن الريف كان الأرض المنعزلة التى يلجأ إليها القوم ابتغاء النجاة من الغزاة الأجانب. ولكن الحقيقة هى أن الريف كان على عكس ذلك تمامًا، فهو البقعة التى استوطن فيها مرتزقة المحاربين من الإغريق، وكذلك رجال القبائل من العرب، وبدو الصحراء، وأنَّ الريف — كما سأشير إليه فيما بعد — كان على الدوام المفترس للبشرية المصرية، المفترس النهم الذى لا يشبع.
 
وآخرون — ممن يعنيهم هذا البحث — يظنون أنهم يجدون بغيتهم فى طائفة «أقباط» مصر، واحتمال وجودهم فى هؤلاء، مثل احتمال وجودهم فى غيرهم.
 
وليكن المصريون الأوائل من يكونون، وليكن تأثر سلالتهم بمن وفد على بلادهم، واختلط بهم كثيرًا أو قليلًا؛ فالذى يعنينا الآن أنْ نبين أنَّ «مصر هبة المصريين».
 
وإنى لأدرك تمام الإدراك — وهل يمكن أنْ يكون الأمر غير ذلك؟ — أنَّ النيل منبع حياتنا، وأنَّ مصر ما هى إلَّا الأراضى الواقعة على ضفتى النهر، وأنْ ليس لها من حدود إلَّا المدى الذى تصل إليه مياه النهر.
 
ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازًا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلَّا مصرًا واحدة؟ إنَّ هبات النيل — كهبات الطبيعة سواء بسواء — طائشة عمياء، إذا ما تُركت دون ضبط؛ فإنها تدمر كل شيء، وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة.
 
والإنسان وحده هو الذى يستطيع أنْ يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وقد كان ذلك ما عمله الإنسان فى مصر؛ فمصر هبة المصريين.
 
كيف حدث ذلك؟ إنَّ الأستاذ «أرنولد توينبي» يتحدث عن هذا فى معرض كلامه بما سماه «التحدى والاستجابة»، وهذا موجز كلامه: إنَّ هؤلاء المصريين الأوائل — شأنهم فى ذلك شأن بعض الشعوب الأخرى — واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعى العميق فى مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف.
 
هذا هو التحدي، فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام الذين واجهوا التحول من لم ينتقل من مكانه، ولم يغير من طرائق معيشته؛ فلقى جزاء إخفاقه فى مواجهة تحدى الجفاف؛ الإبادة والزوال، ومنهم من تجنب ترك الموطن، ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى، وتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل، عرفتهم المراعى الأفراسية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال، وكان لزامًا عليهم أنْ يواجهوا تحدى برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة الاستوائية المطيرة، وهنالك أوهن قواهم جو تلك المنطقة المطير الجارى على وتيرةٍ واحدة. وأخيرًا منهم أقوام استجابوا لتحدى الجفاف بتغيير موطنهم، وتغيير طرائق معيشتهم معًا.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة