نقرأ معا كتاب "العبقرية: مقدمة قصيرة جدًّا" لـ أندرو روبنسون، ترجمة رحاب صلاح الدين، ومراجعة هبة عبد العزيز غانم، والصادر عن مؤسسة هنداوى، والذى يرى أن مفهوم العبقرية مفهوم شديد الذاتيَّة، غير أنه يتمتع بأهمية ثقافية ويخلب الألباب، فهو يثير في الأذهان الكثيرَ من الأسئلة؛ نظرًا لأننا غالبًا ما نعرفه من خلال الأفراد الذين يتمتعون بقدرات فكرية وإبداعية استثنائية، فهل يُولَد العبقري عبقريًّا أم أنه يُصنَع؟ ما الفرق بين الموهبة والعبقرية؟ وما الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها الشخص كي نَصِفَه بالعبقري؟
يتناول أندرو روبنسون — في استكشافه لمفهوم العبقرية في الفنون والعلوم — بعضًا من أبرز العباقرة الذين عرَفهم التاريخ؛ مثل: ليوناردو دا فينشي، وموتسارت، وشكسبير، وداروين، وأينشتاين، ونيوتن، وكذلك غيرهم من العباقرة الذين لم يحظَوْا بمثل هذه الشهرة الواسعة، وذلك لتوضيح دور كل من الموهبة، والوراثة، والتربية، والتعليم، والذكاء، والمرض العقلي، والحظ، وغيرها من العوامل التي تساهم في تكوين شخصية العبقري.
يقول الكتاب على الرغم من شهرة بابلو بيكاسو وتأثيره لا تزال مكانته كعبقري محل جدل، كما هي الحال بالنسبة لمكانة فيرجينيا وولف مثلًا في مجال الأدب، وفي العلم، على الرغم من أن ستيفن هوكينج كثيرًا ما يُعَدُّ عبقريًّا معاصرًا يضارع أينشتاين في نظر الجمهور العام، فهو لا يحظى بالقدر نفسه من القبول من جانب علماء الفيزياء الذين يفهمون عمله تمام الفهم؛ فهو لا يشكِّل لهم سوى واحدٍ من نجوم مجال علم الكونيَّات.
والعبقرية بطبيعة الحال فردية وفريدة، إلا أنها ذات طابع مؤثر، سواء بالنسبة لعامة الناس أو المتخصصين، فأفكار داروين لا يزال ينشد قراءتَها كلُّ عَالِم أحياء، ولا تزال مستمرة في توليد أفكار وتجارب جديدة في جميع أنحاء العالم، وكذلك هي نظريات أينشتاين بالنسبة لعلماء الفيزياء، ولا تزال مسرحيات شكسبير وألحان موتسارت وإيقاعاته تؤثِّر في أناس من لغات وثقافات بعيدة كل البعد عن إنجلترا وطن الأول، وعن النمسا وطن الثاني.
قد يظهر عباقرة "معاصرون" ويختفون، لكن فكرة العبقرية لن تَبْرَحنا أبدًا، وكلمة عبقري هي الصفة التي نُطْلِقها على نوعية العمل الذي يتجاوز حدودَ الاتجاه السائد والشهرة والمكانة المرموقة؛ أي: ليس المرتبط بفترة زمنية بعينها. فالعبقرية تتجاوز بطريقة أو بأخرى وقتَ ظهورها ومكانَه.
يعود أصل كلمة عبقري بالإنجليزية "جينياس" للعصور الرومانية القديمة، ففي اللغة اللاتينية تُستخدَم كلمة جينياس لوصف الروح الحارسة (الحامية) لشخص أو مكان أو منشأة، وهلم جرًّا، الأمر الذي ربط هؤلاء الأشخاص بقُوى القَدَر وإيقاعات الزمن.
ومثلما هي الحال بالنسبة لكلمة "دايمون" اليونانية — التي تعني أيضًا الروح الحارسة — كان يُعتقَد أن جينياس أو الروح الحارسة تُلازِم المرءَ من المهد إلى اللحد، كما عبَّرَ عن ذلك الشاعرُ هوراس في أبيات له تَعُود للقرن الأول قبل الميلاد، قائلًا: "هي الرَّفِيقُ الذي يوجِّه نَجْمَ مَوْلِدِنا، رب الطبيعة البشرية، وهي فانيةٌ مع كل فَرْد، وتختلف في السِّيماء، أبيض وأسود".
ويرى هوراس أن تلك الروح وحدها هي مَن تحدد لماذا قد يختلف شقيقان كل الاختلاف من حيث الشخصية وأسلوب الحياة، لكن كلمة جينياس لدى الرومان لم تكن بالضرورة مرتبطة بقدرة أو بإبداع استثنائي.