نقرأ معا كتاب أوروبيانا مختصر تاريخ القرن العشرين لـ باتريك أورشادنيك ترجمة الدكتور خالد البلتاجى، وصدرت الترجمة عن دار نشر العربى، والكتاب يطرح سؤالا غريبا لكنه مهم، متى بدأ القرن العشرون بالضبط؟
يقول الكتاب
كان بعض المؤرخين لاحقًا يقول إن القرن العشرين بدأ فى عام 1914 مع اندلاع الحرب، لأنها كانت أول حرب فى التاريخ يشارك فيها هذا العدد الكبير من الدول، ويموت فيها هذا العدد من البشر، وتطير فيها السفن الجوية والطائرات، لتقذف الأراضى والمدن والمدنيين، وتُغرِق الغواصات السفن، وتُطلق القذائف من المظلات على بعد عشرة أو عشرين كيلومترًا.
كانت الحرب التى اخترع فيها الألمان الغاز، والإنجليز الدبابات، واكتشف فيها العلماء النظائر، ونظرية النسبية التى أثبتت أنه لا وجود للميتافيزيقا، وأن كل شيء نسبى. وعندما رأى القناصة السنغاليون الطائرة لأول مرة فى حياتهم اعتقدوا أنها طائر أليف.
وقام أحد الجنود السنغاليين باجتزاز قطع لحم من جثث الخيول الميتة، وراح يرميها بكل عزم على الطائرات حتى تبتعد عنه، كان الجنود يرتدون زيًا أخضرًا مموهًا حتى لا يراهم الأعداء. وكان هذا أمرًا جديدًا وقتها، حيث كان الجنود فى الحروب السابقة يرتدون أزياء مزركشة للغاية حتى يسهل التعرف عليهم من بعيد.
وظهرت فى الهواء السفن الطائرة والطائرات، وأصيبت منها الخيول بالهلع. وراح الأدباء والشعراء يبحثون عن أسلوب أفضل للتعبير. ففكروا فى عام 1916 فى مذهب الدادائية، لأن كل شيء بدى لهم سخيفًا. وفى روسيا فكروا فى الثورة. فحمل الجنود حول أعناقهم أو فى معصمهم علامة تحمل اسمهم ورقم الكتيبة التى يتبعونها، حتى يسهل التعرف عليهم لكى يرسلوا لذويهم برقيات التعزية. وعندما كانت رقابهم أو أيديهم تنفصل عن أجسادهم أثناء الانفجار، كانت القيادة العسكرية تعلن أنهم جنود مجهولون.
وكانوا يشعلون شعلة كبيرة فى معظم العواصم لإحياء ذكراهم، لأن النار تحتفظ بذاكرة الماضي. كان طول طابور الجنود الفرنسيين الذى لقوا حتفهم فى الحرب يمتد إلى مسافة 2681 كيلومترًا، وطابور الجنود الانجليز 1547 كيلومترًا، والجنود الألمان 3010 بمتوسط طول الجثة الواحدة 172 سنتيمترًا. وكان إجمالى طول طابور الموتى فى أنحاء العالم 15508 كم.
انتشر فى عام 1918 وباء البرد فى كل أنحاء العالم. كانوا يطلقون عليه نزلة البرد الأسبانية التى قتلت أكثر من عشرين مليون فردًا. قال معارضو الحرب ومناهضو التسليح لاحقًا إن هؤلاء كانوا أيضًا من ضحايا الحرب، لأن الجنود ومثلهم المدنيون كانوا يعيشون فى ظروف صحية سيئة.
وأكد علماء علم الأمراض أن من ماتوا بسبب الانفلونزا كانوا أكثر ممن ماتوا فى الحروب، وخاصة فى جزر المحيط الهاديء، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية. وقال الفوضويون بأن هذا ما يجب أن تكون عليه الأمور، لأن العالم قد فسد، ويتجه نحو الفناء.
وقال مؤرخون آخرون بأن القرن العشرين بدأ فى الحقيقة قبل ذلك، وأن بدايته كانت مع الثورة الصناعية التى أنهت العالم التقليدي، وأن ذلك يرجع إلى وجود القطارات والبواخر. وقال غيرهم بأن القرن العشرين بدأ عندما تأكد البشر من أن أصولهم تعود إلى القردة. وكان بعض الناس يشككون فى أن الإنسان أصله قرد، لأنه تطور أسرع منه. وبدأ الناس يقارنون بين اللغات، ويبحثون عن اللغات الأكثر تطورًا، وعن الشعوب وصلت درجات أعلى من غيرها فى عملية التحضر.
واعتقدت الغالبية بأن الفرنسيين أبقوا لغتهم متطورة أكثر من غيرهم، لأن أشياء كثيرة ومهمة حدثت فى فرنسا، كما أن الفرنسيين يجيدون الحديث، ويستخدمون الجمل الشرطية فى الماضى البعيد، ويبتسمون للنساء بطريقة فاتنة، ونساءهم يرقصن الكنكان. واخترع الرسامون الفرنسيون أسلوب التأثيرية فى الفن. لكن الألمان كانوا يقولون إن الحضارة الحقيقية يجب أن تكون بسيطة، وقريبة من الشعب، فابتكروا المذهب الرومانسي. وكتب العديد من الشعراء الألمان عن الحب، وعن الضباب الذى ينتشر فى الوديان. كان الألمان يقولون إنهم حَمَلة شعلة الحضارة الأوروبية الأصليون، لأنهم يجيدون فنون القتال والتجارة، ويجيدون أيضًا تنظيم حفلات الترفيه. أما الفرنسيون فمتكبرون، والانجليز متفاخرون، والسلاف لغتهم مَعيبة. وبما أن اللغة هى روح الشعوب، فالسلاف ليسوا فى حاجة إلى وطن، أو إلى دولة، لأن هذا من شأنه أن يُربِكهم. لكن السلاف كانوا يقولون إن هذا منافٍ للحقيقة، وأن لديهم فى الواقع لغة أقدم من كل اللغات، وأن لديهم أدلة على ذلك. وأطلق الأمان على الفرنسيين اسم أكلة الديدان، وأطلق الفرنسيون على الألمان لقب الرؤؤس الخضراء. وكان الروس يقولون إن أوربا كلها على وشك السقوط، وأن الكاثوليك والبروتستانت قد أفسدوا أوربا تمامًا، واقترحوا أن يطردوا الأتراك من القسطنطينية، ثم يصلوا روسيا بأوروبا من أجل حماية العقيدة.