محمد حبوشه

حتما سنرجع يوما إلى فلسطين أيها الشاعر

الجمعة، 31 يوليو 2020 01:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سنرجع يوماً إلى حيّنا

ونغرق في دافئات المنى

سنرجع.. مهما يمرّ الزّمان

وتنأى المسافات ما بيننا

فيا قلب مهلاً، ولا ترتمي

على درب عودتنا موهنا

هذه الأبيات هى مطلع قصيدة تغنت بها الفنانة الكبيرة "فيروز" عام 1955 في أول زيارة لها بالقاهرة من الديوان الأول "مع الغرباء" للشاعر الكبير الراحل هارون هاشم رشيد، الذي غادر دنينا الأثنين الماضي في مدينة "ميساساجا" الكندية عن عمر ناهز 93 عاما، وذلك بعد أن تغنى له أساطين الطرب المصري والعربي بما يقرب من 90 قصيدة، ومنهم "فايدة كامل، ومحمد فوزي، وكارم محمود، ومحمد قنديل، ومحمد عبده، وطلال مداح، ولطيفة وعلى الحجار وآخرون"، وكان طبيعيا جدا أن شاعر يحمل هذا الهم الوطني في عقله ووجدانه، وتلك الموهبة الشعرية الطاغية أن تلتفت إليه أنظار كبار المطربين في عالمنا العربي.

والراحل الكبير "هارون هاشم رشيد" دخل زنزانة القضية الفلسطينة مثل عصفور مهيض وهو لم يزل طفلا لايتجاوز التاسعة من عمره، ومن قلب مخيمات اللاجئين في غزة ظل يحلق مغردا لحنه الشجى الحزين المستمد موسيقاه من أنين الأرض وآلام النكبة ولوعة الغربة وانكسار لحظات النزوح والهجير، حتى صارت قصائده الأولى أناشيد ثورية ملتهبة تفتح بوابات الأمل وتعبد جسورالعودة مرددا: عائدون .. عائدون .. إننا لعائدون.

هو فارس جواد الشعر الفلسطينى القادم من مواطن الحزن المبطن بالأسى والحنين النابع من قلب حارة الزيتون - مسقط رأسه - وهو الثائر الغض الذي استنشق غبار دوريات الإنجليز والترك والصهاينة فلم تزده إلا عشقا لتراب الوطن، وهو الذي جاب المدن والبلدات الفلسطينية طفلا وصبيا ليختزن القضية في ذاكرته الحية التى صهرت في بوتقتها وجوه البشر المكلومين بفعل عذابات "بلفور"، واغتصاب الصهاينة وصلف الإنجليز وخزلان الأتراك، فغدت قصائد متناثرة ترسم ملامح أسطورة التحدي ورفض السلام وتميع القضية فوق منصات التفاوض والاستسلام.

إنه "شاعر الأرض، والنكبة، والنازحين"، والذي لقب أيضا بشاعر القرار 194، "هارون هاشم رشيد " الذي غاص في أعماق نفوس القادمين من مواطن رغد العيش في "يافا وحيفا وبئر السبع وجبل الكرمل"، عندما افترشو رصيف الحياة في مخيمات غزة مع بدايات عواصف التشريد، و"مع الغرباء" عنوان ديوانه الأول جسد حلم العودة لأرض الأشواك، ظل حاملا أوراقه ويمضى من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد رافضا أن يلقى بندقيته أو مدفعه حتى تعود رايته خفاقة فوق الأمام، ويعود كل النازحين مع الهناء والابتسام، في يومها فقط يحلو السلام ويكون شاعرنا في صف السلام كما كان يؤكد دائما.

في صيف عام 2013 التقيته في شقته بحى المهندسين، وأجريت معه حوارا مطولا عن هموم الوطن والمواطن الفلسطيني، وعلى الرغم من عمره الذي كان قد تجاوز الـ 86 عاما إلا أنه جلس أمامي كطفل وديع تلمع عينيه بالبراءة والكبرياء والسمو، ودار بيننا حوار شيق قلبنا خلاله صفحات حياته الثرية بالشعر والمسرح والتاريخ الذي حمله أمانة في عنقه، ودخلت معه زنزانة القضية الفلسطينية كى نغوض في أعماق أجواء النكبة والغربة ونعرج على جسور العودة وصولا لبوابات السلام المزعوم - من وجهة نظره - التي لم تلن يوما رغم عذابات الغربة والحنين إلى مسقط رأسه في حي الزيتون.

حكى لي "هارون هاشم رشيد" عن مولده عام 1927 في قلب هذا الحى العتيق - حارة الزيتون -  لعائلة تحب الشعر، كما أن أباه - يرحمه الله - ورث عن أبيه الذي كان مختارا (عمدة) مسئولية الحى، وبالتالي كان يوجد في بيته ديوان كبير(صالة استقبال في مدخل البيت) وكان من عادات هذا الديوان أن يأتي إليه في ليالي الشتاء شاعر الربابة، ذلك الذي شد الصبي "هارون" صوته وأنغامه، حيث كان هذا الرجل يملك العديد من الحكايات الحلوة المصحوبة بالأنغام العذبة ، فضلاعن الكلام الموزون والمقفى، وهو مالفت نظره منذ الصغر حتى بدأ يعشق هذا اللون من الشعر الذي  كان يسمعه عن بعد متسللا بالقرب من الديوان الذي لايسمح لى بدخوله في وقت أن كان طفلا.

وعندما كبر"هارون" سمح له والده بالجلوس فترة قصيرة، لكن من كثرة ولعه وانشغاله بالربابة ومايقوله الشاعر من كلمات وألحان كان يخرج من الديوان الكبير ويجلس في ديوان أصغر مغطى بالقرب منه كى يغترف من هذا النبع الفنى الشعبي الصافى، غير مبال بالبرد القارص حتى أصبيب - على حد قوله - بنزلة برد كادت تقضى عليه من أجل هذا الشعر.

أما متى بدأت ينمو حسى بفسلطين كوطن وقضية فحكى لي "شاعر العودة" قائلا: أن ذلك كان ذلك مبكرا جدا، حيث انشغل بها تحديدا عام 1936م في عمر الـ 9 سنوات حين قامت أكبر وأهم ثورة في تاريخ القضية الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني وضد الصهيونية آنذاك، وهذه الثورة شملت كل أنحاء فلسطين، وأعلن إضراب شامل وكان على كل رجل أو شاب أن يحمل السلاح ليذهب إلى الجهاد، وبالتالي خلت حارة الزيتون من الناس الذين ذهبوا للقتال، وأغلقت المدارس، وكان كل مايشغلهم كأطفال هو اللعب في الشارع.

لكن اليوم الذي أورخ فيه تاريخ التزامه بالقضية والذي سجله في ما بعد في قصيدة في ديواني الأول بعنوان "قصة حدثت من أمس منذ عشرين عاما "، وهى قصة حقيقية حدثت في يوم 27 رمضان في تلك السنة 1936، وقال لي بالحرف الواحد: كان من عاداتنا في كل مساء أن نجلس في الساحة الموجودة في حارة الزيتون بالقرب من جامع الشمعة الذي يجاور بيتنا في انتظار أذان المغرب ونحن نلعب "البليي" وفى اللحظة التى ننصب فيها البلي في الملعب والشارع خال تماما من المارة فوجئنا بدورية بريطانية قوامها ثلاثة عساكر تقترب منا وظلوا بعض الوقت يراقبون ماذا نفعل، وفي لحظة خاطفة خرج من زقاق صغير ضيق ثلاثة من الملثمين واشتبكوا مع الدورية، سقط أحدهم فورا والثانى جرح وهرب والثالث.

ويضيف هارون هاشم رشيد: لم نعرف وقتها مصير ذلك الهارب وسط حالة من الارتباك وهول الصدمة، وكانت المفارقة أنى عرفت اثنين من هؤلاء الملثمين حيث كانا يسهران في الديوان، وهما أصدقاء والدي خاصة أن غالبية رواد الديون كانوا يحكون ويضحكون معى بحكم أنى كنت أجالسهم، كان أحدهما مسيحى قائد أحد الفصائل المقاتلة في معارك 1936م واسمه "بطرس الصايغ"، والثانى مسلم وهو "مدحت لوحى"، وظل الاثنين عالقين في ذهنى حتى الآن وتعلمت منهما معنى الوطنية، بل أدركت حقيقة الدرس الأول لحفظ تاريخ النضال الفلسطيني.

ولقد أدرك "هارون هاشم رشيد" أيضا منذ صغره بأنه بالأساس له عدوان، الأول مباشر وهو اليهود الإسرائيليين الغزاة الذين الذين جاءو ليغتصبوا الوطن، وعدو ثان غير مباشر يساعدهم وهم البريطانيون ، ومن ثم أدرك فحوى شيئ إسمه "وعد بلفور"، وهو كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر: "وعد من لايملك لمن لايستحق"، يعنى منحهم بلد ليست بلدهم ووطن ليس وطنهم، ومن هنا أصبحت القضية الفلسطينة في وجدانه، وبدأ يزيد شغفه أكثر بتلك القضية المصرية من خلال ديوان والده حيث يسمع كل يوم عن ما يبيته الصهاينة لأبناء فلسطين المسلوبة، عندئذ تشكلت ملامح الوطن بداخله، بل أن كل هذا شكل له ما ثبت عليه منذ ذلك الزمان وحتى رحيله.

ومن المفارقات الغريبة التي حكاها لي في حواره معي كانت بخصوص تسميته على اسم "هارون الرشيد "، فربما قد كانت هناك مفارقات سعيدة - على حد تعبيره - بهذا الاسم، خاصة عندما كنت أقف على الطاولة وأقرأ الشعر، لكن المفارقات غير السعيدة كانت عندما دخلت المدرسة وبدأت أنتقل من سنة لأخرى بشكل طبيعي إلى أن وصلت السنة الرابعة، حتى حدثت مفارقة مذهلة عندما جاء لنا مدرس من مدينة "بئر السبع" إلى غزة وتولى مسئولية الفصل، ومع أول موضوع إنشاء في اللغة العربية كلفنا به جاء في اليوم التالي ينادي على أسمائنا ثم توقف أمام اسمي وقال بسخرية مصحوبة بالدهشة "هارون الرشيد مرة واحدة "، فقلت له هذا إسمى يا أستاذ كما هو مكتوب في شهادة الميلاد، فقال لي بلغة آمرة: لا..لا.. لابد أن تغير اسمك على الفور إلى "هارون هاشم رشيد ".

وما كان منى أن قلت له لماذا؟: أليس إسمك "محمد"، وهناك كثيرون يسمون بذات الإسم أيضا، فهل أطلب منك أن تغيره ، فهب ثائرا وطردنى من الفصل فتوجهت إلى ناظر المدرسة الذي كان يسمى "بشير الريس"، وكان ينتمى إلى حارتنا ووالده صديق والدي، وكنت أعرفه جيدا بحكم أنى أذهب إلى ديوان والده ويأتى هو إلى ديواننا أيضا، وكان يعاملنى كأحد أبنائه، وفور أن دخلت عليه سألنى: ماذا حدث لك؟ فقصصت عليه الحكاية .. ضحك كثيرا لأنه يعلم أن هذا الأستاذ متشدد جدا، وقام وربت على كتفي وقال: إذا ننقلك من الفصل الرابع 1إلى الرابع 2، وربما كانت هذه أكبر المفارقات وأنا صغير، فضلا عن ما كنت أواجهه كثيرا فور ذكر اسمى في التليفون، حيث يعتبره البعض نوع من السخرية وليس اسمى الحقيقي.

حكايا الشاعر الراحل الكبير شيقة وممتعة في هذا الحوار الذي امتد لما يزيد عن أربع ساعات عن حياتة المليئة بالشعر والتاريخ، ويحمل في طيات تلك الحياة مفارقات كبرى ومنها أن ديوانه الشعري الأول "مع الغرباء" الذي صدور عام 1954 من رابطة الأدب الحديث بالقاهرة بمقدمة من الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي - رحمه الله - كان له قصة غريبة بعض الشيئ، حيث صدر هذا الديوان في عدم وجوده، بعد ما حمل أوراقه المرحوم الشهيد صلاح خلف "أبو إياد" وذهب بها لصديقه الدكتور خفاجي في رابطة الأدب الحديث، والذي كتب له المقدمة بالإضافة إلى أربعة من الأدباء الكبار آنذاك: الدكتور على مصطفى السحرتى الذي كان عميدا للنقاد، الدكتور وديع فلسطين، الدكتور عبد الله زكريا الأنصاري، وأيضا رضوان إبراهيم، كل هؤلاء كتب كل واحد منهم بحثا في آخر الديوان يقدم من خلاله رؤيته حول تلك التجربة الشعرية، وهذا بالطبع فاجئه وأذهله وفتح أمامه عالم كبير، لأن هذا الديوان أحدث ضجة في القاهرة وبيروت وليبيا أيضا، ومن هنا فقد وضعتني مصر على أول الطريق .. هكذا قال لي الراحل العظيم بفخر في حديثه عن دور مصر في حياته.

رحم الله الشاعر الفلسطيني الكبير "هارون هاشم رشيد"، ودهونا نغني في وداعه في دروب الغربة الموحشة "نشيد العودة" الذي غنته المجموعة، وكان القاسم الأكبر فى الإذاعات العربية بعد نكسة يونيو 1967 والذي يقول فيه:

إننا لعائدون

عائدون عائدون إننا لعائدون

 فالحدود لن تكون، والقلاع والحصون

فاصرخوا يا نازحون إننا لعائدون

عائدون للديار، للسهول للجبال

تحت أعلام الفخار، والجهاد والنضال

بالدماء والفداء، والإخاء والوفاء

إننا لعائدون

عائدون يا ربي، عائدون يا هضاب

عائدون للصبا عائدون للشباب

للجهاد فى النجاد والحصاد فى البلاد

إننا لعائدون.

 







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة