انتشرت فى الآونةِ الأخيرةِ أخبار عملياتِ السِّحر والشَّعوذة، وإخراج أعمالِ السِّحر من المقابر وغيرها كما طالعتنا به المواقع الإخبارية، وهو ما يعنى تراجعًا كبيرًا فى التزام الناس بتعاليم دينهم وأخلاقياتِه الراقية، وعدم صدق اعتماد الكثير من هؤلاء فى التوكل على الله، وعدم الأخذ بقانون الأسباب والمسببات، والركون إلى أصحاب العقول الخرافية، وتدعيم أصحاب الشعوذة والمتاجرين بالخلق ممن تقوم دعواهم على الكذب والدجل ودعوى علم الغيب بما يدعونه من النظر فى النجوم والطوالع، وقد حذر رسولنا، صلى الله عليه وسلم، من هذا الفعل المشين وبيّن أثره على المرء وإيمانه، فـعن حفصة رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافًا فسأله عن شىء لم تقبل صلاة أربعين ليلة»، وقد اختار بعض الناس لأنفسهم أن يكونوا من شرارِ الناس مع أن شرعَنا أرادَ لنا أن نكون من خيارهم «خير الناس أنفعهم للناس»، كما أُمِرنا ربنا بالتعاون على البر والتقوى ونُهينا عن التعاون على الإثم والعدوان: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
والسِّحر حقيقة لابد من الإيمان بها، وقد ذُكرت فى غير آية فى كتاب الله، إلا أن كثيرًا من النَّاس يُبالغون فى ثقافته فبعضهم يكاد يوقن بأن كل صداع أو مرض مزمن، أو موت عزيز، أو فشل تجارى، أو إخفاق الحياة الزوجية، أو رسوبٍ فى امتحان، أو هزيمة فى مباراةٍ كُروية يرجع إلى أعمال سحر قام بها متربصون به، ويُضيِّع كثيرًا من وقته فى الظَّن فى بعض الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا خلف هذه الأسحار المتوهَّمة مع علمهم بأن كثيرًا من الظن إثم، وقد نهانا ربُّ العِزة عنه فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وقد لا يتوقف الأمرُ عند حد الظنِّ بل قد يتجاوزه إلى محاولة الانتقام من هذا الفاعل الموهوم الذى لا علاقة له بالسِّحر الذى يشتكى منه المسحور الواهم الذى لا يُعانى من أى سحرٍ فى الحقيقة وإنما استغلَّ محتال دجال أشر ضعف نفسه، وميله للتصديق بأنه مسحور مُحملا فشله على شماعة السحر، فاستغله الدجال الأشر وأقنعه أنه مسحور مُدَّعيا أنه من البارعين فى فك السحر، وتخليص المسحور منه، وذلك فى مقابل استنزافهم ماليّا بمطالب ما أنزل الله بها من سلطان، بعضها لا يمكن الحصول عليها إلا من خلاله هو، ولا وجود لها فى الأسواق ليتحكم فى ثمنها إضافة إلى أُجرته.
إننا فى حالة تدعو للحذر واليقظة من السحرة المشعوذين؛ فحينما يُعلن برلمانى فى صحيفة مصرية فى العام الماضى أننا ننفق على أعمال السحر وحلِّها خمسة وعشرين مليارًا من الجنيهات فنحن نواجه كارثة حقيقية، فهذه المليارات التى تطير إلى جيوب الدجالين تكفى لتخفيف وطأة الفقر عن محافظات عدِّة إذا أحسنَّا استثمارها، لا سيما وقد أصبح الرجال على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعيّة، ومنهم عدد من رجال الأعمال والمثقفين والمفكرين يزاحمون النساء فى التسابق إلى الاقتناع بهؤلاء الكذابين والمحتالين، الذين يجيدون خداع الضحايا وإيقاعهم فى شِراكهم، وذلك بحصولهم على بعض معلومات يحصلون عليها ربما من ضحاياهم أنفسهم، أو بعض المقربين إليهم أو من أوراق أو أجهزة هاتفية أو من شبكات الإنترنت أو غيرها، وربما تجد بعض رجال الأعمال الكبار كما لا يستغنون عن مساعدين لهم فى مجالات كثيرة فى عملهم كالمستشار المالى والقانونى.. له مستشار أو أكثر غير مُعلن من هؤلاء الدجالين أو السحرة، يستشيره حتى قبل دخوله مناقصة من المناقصات والتى لا علاقة لها بالسحر ولا السحرة، وإنما ينبغى أن تعتمد على الدراسة المسبوقة بالخبرات المتراكمة فى مجالها، ويكفى عند هؤلاء نصيحة من هذا الدجال أو السَّاحر بدخولها أو عدمه لينفذ كلامه غير ناظر إلى الدراسة العلميّة ولا رأى مستشاريه المتخصصين فى مجال نشاطه، بل يضرب صفحًا عن قناعاته هو المستفادة من ممارساته الطويلة، وهذا كله وغيره كثير مبالغة فى ثقافة التعاطى مع السحر، فالسحر حقيقى ولكنه مسلك شيطانى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقد علمنا من شرعنا قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، وأنه لا سلطان له على المتمسكين بإيمانهم بكتاب ربهم وهدى شريعتهم: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، ولذا فإنَّ المؤمن الحق الذى يؤمنُ بضعف الشيطان يؤمنُ أيضًا بأن تحصنه بكتاب الله، والتزامه بصلاته، وسائر عباداته تكفيه وتحصنه من السحر والسحرة، فإن أصابه شىء فعلاجه فى ملازمة كتاب الله قدر استطاعته فكُلُّه بركة طاردة للشياطين، وليت النَّاس يداومون على قراءة سورة البقرة، والمعوذتين وغيرها من الآيات المحصنات التى وردت فى الأحاديث الصحيحة، كما أن الثقة بالله والاعتقاد بضعف الشيطان، والإيمان بأن الإنسان فى كل شأنه عُرضَة للخير وللشر، وللنجاح والإخفاق والصحة والمرض وللغنى والفقر.. يبعدهم عن اعتقادهم أن ما أصابهم إنما هو من السحر، ويدفعهم للبحث عن السبب الحقيقى فى أنفسهم لما أصابهم من خير أو شر.
أما هؤلاء السحرة فليعلموا أنهم على خطر عظيم وأن مسلكهم هذا الذى قد يظنون أنه لكسب المال مسلك حرام قد يخرج بهم عن دائرة الإيمان بالله بالكلية، حيث اتفق علماء المسلمين على أن تعلم السحر وتعليمه حرام، كما اتفقوا على أن ممارسة السحر يمكن أن يؤدى إلى الكفر والعياذ بالله، ولكن على تفصيل بينهم، حيث رأى جمهورهم أن مجرد مباشرة السحر يكفر الساحر، بينما رأى بعضهم أنه يكفر إن فعل بسحره فعلًا مكفرًا، أو استخدم وسيلة مكفرة كتدنيس المصحف أو تمزيقه، ورغم أننى لا أحكم بالكُفر على أحد إلا أننى أردت بذكر مجمل ما ذكره الفقهاء تحذيرَ هؤلاء السَّالكين مسلك السحر لعلهم ينتهون ويعودون من قريب، وبمعزل عن الرأى الفقهى فحيث إن مقصود السَّاحر من سحره المال فلينظر إلى نفسه قبل ممارسته السحر وبعده، بل لينظر إلى رفاقه فى دربه من السحرة ومآلهم، وسيدرك بجلاء أنهم جميعًا قبل ممارستهم السحر كانوا أفضل حالًا فى صحتهم واستقرارا لأسرهم وتوفيق أولادهم، وأن الأموال الكثيرة التى يجنونها من سحرهم كأنها مسحورة لا تكفيهم لحاجاتهم الأساسيّة التى يجدها أقرانهم ممن لا يمارسونَ السِّحر رغم دخولهم الضعيفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة