ستظل ذكرى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس ذكرى أليمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. انفجر المرفأ وانفجر معه قلب "زهرة الشرق" كما وصفها الفينيقيون. أصبحت العاصمة التي تجمع بين الثقافة والتراث والحداثة العربية تحت الأنقاض في مشاهد تدمع لها قلوب العالم أجمع.
ألفان و سبعمائة (2700) طن من مادة نترات الأمونيوم تخذنها أيادي الفساد في عنبر 12 بالمرفأ الحقوا دمارًا معنوياً و نفسياً شاملاً و تفاقمت على آثاره الأزمة الاقتصادية و السياسية في لبنان. شعر اللبنانيون أن حكومتهم تخلت عنهم عندما سمحوا للإهمال و الغطرسة بإشعال نيران كارثة هذا الإنفجار الذي يتماثل في أسبابه بإنفجار المفعل النووي الروسي "تشيرنوبل" و في حجم دماره بالقصف الذري الأمريكي على هيروشيما و ناغازاكي في اليابان. و تجلى انعدام ثقة الشعب في النخبة السياسية بتوقيع مئات الآلاف من اللبنانيين عريضة للمطالبة بعودة الانتداب الفرنسي على البلاد.
وساعدت أربعة سياقات مختلفة في توسيع الفجوة بين المجتمع و الدولة، حيث يشهد هذا العام منذ مطلعه انتفاضات شعبية ضد القائمين على السلطة. بجانب الأزمة الاقتصادية و المالية التي شهدتها البلاد منذ مطلع يناير الماضي حيث ارتفع سعر صرف الليرة اللبنانية الى 9000 ليرة مقابل دولار أمريكي واحد, الأمر الذي جعل الصحف البريطانية تصف الأزمة ب"دوامة الموت". السياق الثالث هو تفشي فيروس كورونا المستجد, حيث غرقت البلاد في خسائر الفيروس الذي رفع أرقام هذه الأزمة الاقتصادية في و وضع البلاد تحت خطر الإفلاس. و أخيراً, حدث الإنفجار في وقت تعجز فيه الحكومة بالكامل على التعامل مع الأزمات بالإضافة الى فقدانها للشرعية. علاوةً على ذلك, زادت الفاجعة الأمر سوءًا حيث إن المرفأ كان يستقبل 80% من واردات البلاد, بل و دمر الإنفجار مركز لبنان الثقافي و التراثي في أحياءٍ عريقةٍ مثل حي "الجميزة". فضلاً عن الخسائر البشرية و المادية التي تمثلت في مقتل و فقد المئات و إصابة الآلاف و تشرد مئات الآلاف.
وبعد أيام قليلة من الكارثة خرج اللبنانيون في احتجاجات مسلحة ضد النخبة السياسية و نظام الحكم مطالبين باستقالة و محاكمة المسؤولين. و بالفعل إستقالت الحكومة تحت ضغط محلي و دولي و لكن يبقى السؤال..هل المجتمع المدني قادر على إدارة الحياة السياسية في لبنان الآن؟ يرى الباحث في العلوم السياسية "جوزيف باحوط" أن المجتمع المدني اللبناني غير قادر على ملء الفراغ السياسي في البلاد و ذلك لأن الحركة الاحتجاجية ضد نظام الحكم غير منظمة و لم تقدم حلولاً لمشاكل البلاد المُلحة. و على جانب آخر, لا يمكن الاعتماد على تشكيل حكومة "انتحارية" تدير البلاد, لأن ميزان القوى لم يتغير و النخبة السياسة لا تنوي تغيير أساليبها التي تعتمد على "لعبة إلقاء اللوم" التي يتقاذفونه كالكرة منذ عقود. حيث أن سطوة الطوائف الحزبية في لبنان فرضت على رجال الدولة إيجادة فن التهرب من المسؤولية بمهارة و العمل لمصالحهم الخاصة و مصالح أحزابهم فقط دون أخذ مصير الدولة في عين الإعتبار.و ذلك يرجع الى فترة ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية حيث تصارع أمراء الحرب من مختلف الطوائف للسطو على ما تبقى من لبنان الهش, مما ترتب عليه تشكل نظام حكم يدان بفساده المستشري و عدم كفاءته الفادحة.
إذًا هل تنزلق لبنان نحو المجهول والأسوء؟ بالفعل تنزلق لبنان نحو المجهول, و لكن لا نستطيع أن نجزم أبدًا أنها تنزلق نحو الأسوء لأنها قادرة على النهوض و الإصلاح السياسي و الاقتصادي في حالة واحدة فقط: وهي أن يتم تشكيل حكومة من المدنيين و العسكريين معا على غرار النموذج السوداني، حكومة من شأنها العمل على النهوض بالبلاد ولا تخضع للسطوة الحزبية مطلقاً. وعليها الإقلاع عن الأساليب والآليات التي اتبعتها الحكومة السابقة، والاعتماد على جهات فاعلة دولية في تقديم المساعدات اللازمة للنهوض من الكارثة التي تقوض البلاد. ومن هنا يأخذنا الحديث لتسليط الضوء على الجدل حول آثار الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي المعني بتقديم مساعدات مشروطة للإصلاح الاقتصادي. حيث إن البعض ينتقد هذه الشروط واصفون إياها بال"استعمار الحديث" الذي يجبر الدول النامية للخضوع لسياسات تُمليها عليها هذا النوع من المؤسسات الدولية.
وعلى هذا النحو، ينتقد البعض مساعي "الأم الحنون" فرنسا في مساعدة بيروت، وعلقوا على زيارتي الرئيس الفرنسي (مانويل ماكرون) لبيروت إنها "خطوة استعمارية حيث تتعامل فرنسا مع لبنان كأنه حصتها في الإقليم". البعض الآخر يرى أن الوضع الاقتصادي اللبناني متعسر جدًا حيث إن اللجوء لصندوق النقد الدولي هو الحل الوحيد لتنشيط الاقتصاد. وأن مساعي فرنسا نابعة من الارتباط التاريخي و المعاصر، و الثقافي و الاجتماعي بين البلدين. مما لاشك فيه أنه لا غنى عن المساعدات الدولية للبنان على غرار الانفجار، و لكن يجب أن تقتصر هذه المساعي على مساعدات إنسانية واقتصادية بدون سياسات جبرية لتفادي خطر التدخل في شؤون البلاد الداخلية ولتفادي تحول الدولة من مستعمرة للتسلط الحزبي والفساد إلى مستعمرة لأيادي أجنبية.. وتستمر المعاناة.
ويبقى السؤال.. هل ستأخذ لبنان طريق التغيير الجذري في الحياة السياسية الذي من شأنه إنقاذ الوضع الكارثي في لبنان؟ أم ستأخذ طريق يزيد من الأمر سوءًا؟
وللحديث بقية..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة