عرفت السينما المغربية، فى خلال الأعوام الأخيرة، قفزة نوعية، خاصة على مستوى الإنتاج، إذ زاد عدد ما ينتج من الأفلام بشكل ملحوظ، وذلك فى ظل وضع سينمائى عام هو صعب، يحكمه تراجع الإنتاج بسبب كورونا وحتى قبل الوباء الكونى، كان التراجع لأسباب أخرى متعددة منها إهتمام الجمهور، فيما يخص الصورة بمجالات أخرى كالتليفزيون الذى أصبح فى حد ذاته هو الرسالة التى يستقبلها الجمهور ويتعود عليها ويخضع لها، وليس المضمون الذى يقدمه، أو الكمبيوتر والإنترنت فى ظل إزدهار الثورة التكنولوجية والقصف الإعلامى المكثف الذى استهدف تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، حتى أصبح الكمبيوتر ركنًا مهمُا فى الحياة والبرنامج اليومي.
يعود تزايد الإنتاج السينمائى المغربى إلى أسباب عدة، أبرزها الدعم الذى تقدمه الدولة لإنتاج الأفلام السينمائية الطويلة والقصيرة، عن طريق المركز السينمائى المغربى، هذا الدعم رافقه اهتمام حقيقى بتدريس فن السينما وصناعتها، وظهور مخرجين مغاربة جدد، يضيفون لأجيال سابقة مثابرة كرست صورة بارزة للسينما المغربية، بما لديهم من طموح فى صناعة السينما، ونظرة متباينة لدور السينما فى المجتمع، لكنها متفقة على ضرورة تطوير السينما شكلًا ومضمونًا وانفتاحها على العالم الخارجى، وتفاعلها مع صناعة السينما فى العالم، وكذلك على أهمية الحضور السينمائى المغربى وتمثيله فى المهرجانات والمحافل الدولية.
مثالًا على ذلك، الأفلام الثلاث التى شاركت فى الدورة 37 من مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط وحصلت على نصيب مهم من جوائزه، وهى "مرجانة" إخراج جمال السويسى، "جرادة" إخراج إدريس الروخ، "أناطو" إخراج فاطمة بو بكدى، وللمرأة فى ثلاثتهم صور مختلفة، وإن تعلقت جميعها بالوضع الاجتماعى وتأثيراته المتفاوتة، وهذا أمر طبيعى فى السينما المغربية التى كثيرًا ما عبرت عن المرأة وحكت عنها، بمساحة كبيرة من الحرية.
ربح "مرجانة" جائزة أفضل فيلم عربى فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، يغوص الفيلم، وهو العمل الروائى الطويل الأول لمخرجه، فى مساحات مفرطة الحساسية بين الفن والواقع الاجتماعى، الذاتى والعام، الحاضر والماضى، باريس وطنجة، كلها مساحات متباينة فى التأثير، لكنها فعالة فى بنية الفيلم وطريقة اشتغاله السينمائى، تصويرًا وتوليفًا وسردًا حكائيًا، بحيث يصنع المخرج وهو كاتب السيناريو أيضًا من جوهر الحكاية صورة سينمائية سوية، تجعل من الفيلم شهادة عن حرفية مخرج مهنى منفتح على آفاق من الابتكار البصري.
بالإضافة إلى هذا، فإن الفيلم الذى شارك فى بطولته هناء بواب، عبدالله بن سعيد، سيد أحمد عجومى، نادية نيازى، فريدة عوشانى، حمزة اليملاحى، يعاين بمواكبته "مرجانة" ويومياتها وانشغالاتها وهواجسها ، مغنية الأوبرا المغربية، حيث قررت العودة من باريس إلى وطنها المغرب، لتواجه كل شيء بداية من حلمها لتقديم أوبرا فى بلدها، وفقدانها حبيبها فى حريق بالمسرح، ثم اكتشافها بأنها حاملًا بطفلهما، هذا غير تصديها لغلظة وجهامة المجتمع، لتصبح المغنية التى تؤدى كارمن فى الرواية الشهيرة، هى بطلة رواية واقعية، عليها فيها أن تثبت قوتها وصلابتها، والأهم أن تدعم ذاتها بنوع ما من التسامح.
على هذا النحو من التوزع بين الفن والواقع المجتمعى، يطرح الفيلم أمور عدة متعلقة بالفن والهوية والانتماء والصداقة، وعن حضور الموسيقى وخصوصًا موسيقى نوعية مثل الأوبرالية فى بلد لا يبالى بها، من دون الانزلاق إلى فخ المباشرة، إنما بأسلوب يتسم بكثير من الحساسية الإنسانية المرافقة للسياق السردى والمناخ الدرامى والمسار الحكائي.
أما فيلم "جرادة مالحة" للمخرج إدريس الروخ، الحاصل على جائزة أفضل إخراج فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، فيخوض فى مساحة أخرى، بحيث يحقق نقلة نوعية ليس فى الموضوع السينمائى فقط، وإنما المجتمعى أيضًا، بدءًا من عنوانه المستوحى من التراث الشعبى، ومن ألعاب الطفولة، إلى حكايته التى تتسم بـ"العصرنة"، إن جاز التعبير، سواء من ناحية الموضوع المطروح أو طريقة تناوله، فالمادة الدرامية لـ"جرادة مالحة" تتمتع بتفاصيل متنوعة مكتوبة بلغة بصرية متماسكة فى ترجمتها السينمائية، ويحمل الشكل الفنى لهذه المادة لحظات جميلة فى سردها حكاية الصراع العنيف بين ما هو اجتماعى خاص، وبين ما هو أشمل وأعم.
إدريس الروخ عبر فيلمه الذى شارك فى كتابته مع عدنان موحاجة، والاثنان شاركا أيضًا فى التمثيل مع كل من: منى الرميقى، عبدالرحيم المنيارى، فاطمة الزهراء بناصر، خنساء بطمة وأخرون، يتوغل فى النفسية البشرية بمنحى فلسفى ليصل إلى إجابة عن السؤال الوجودي: من نحن؟ وما هو دورنا بالحياة؟.. إنه سؤال عام وحقيقى، لكنه هنا يقودنا إلى الإجابة عبر امرأة شابة قررت الانطلاق والبحث عن حياتها الضائعة، بعد أن وقعت ضحية مؤامرة تهدف إلى التحكم والسيطرة، حيث وجدت نفسها فى قلب تجربة يقودها أشخاص لأغراض خاصة سعوا من خلال بروتوكول كامل لتشكيل وخلق شخصية مطلوبة، فحرمت بسبب ذلك من حياتها وذكرياتها، وصارت بذاكرة مشوشة وحياة خانقة.
إن البطلة هنا هى نموذج للضياع الإنسانى، وهذا ما يفسره الترجمة الانجليزية للفيلم وهى "`The Lost"، نموذج له عمقه ودلالته فى عمل منسوج بمخيلة لم تلتقط معالم الواقع المغربى فقط، وإنما الواقع البشرى عمومًا، ونقله إلى المتفرج فى إطار توليفى، تمت صياغة لغته بجمالية التنقيب عن مفردات داخلية سواء غريبة أو مألوفة، المهم أنها مستلة من بشريتنا، الدقة فى اختيار تفاصيل صغيرة، والوضوح فى سبر أغوار الذات الإنسانية من خلال هذه التفاصيل الصغيرة، منحا الفيلم بعدًا إنسانيًا وجماليًا، بلغة روائية منفتحة على الأسئلة الإنسانية والاجتماعية والفنية المتنوعة، جعله مرآة للذات الفردية وللعالم التائه، من خلال امرأة أرادوا أن يخربوا عقلها وحياتها، لكن لم يكن يسيرًا، لأنها امرأة مثل الجرادة المالحة بما تحمله الكلمة من معنى، ليبقى فيلمًا مشغول بحرفية عن المرأة وعن المقاومة وعن التغير الكونى العاصف فى الذات الإنسانية، وأيضًا ينتمى إلى مشروع إدريس الروخ كمخرج وكممثل يطمح فى التنوع والانفتاح على الأخر.
بينما المخرجة فاطمة بوبكدى فى فيلمها "أناطو" الفائز بجائزتين فى مسابقتى المهرجان، أفضل تصميم للأزياء فى مسابقة الطويلة لدول البحر المتوسط، أفضل تصوير فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، تمكنت من تحديد التأثير الكامن للبيئة التى تنتمى إليها المرأة، إذ أوضحت فى حكايتها كيف تعانى المرأة بمستويات مختلفة من ثقل حياة غير قابلة بها، وغير راضية عنها، ثقل يتمثل فى فقدان راحة وسعادة وسكينة، وكذلك بوفرة خلل وانهيار وضغوط لا تنتهي.
" أناطو" إذن هو فيلم صريح عن المرأة بشكل عام، وإن كان إختار أن يحكى عن الفتاة السنغالية أناطو، فى زمن قديم، حيث المغرب فى نحو أربعينيات القرن الماضى، إن فاطمة بوبكدى فى فيلمها الروائى الطويل الأول، وهى المعروفة بشغفها فى التغلغل داخل التاريخ والتراث المغربى، لم تكترث بمعاناة هذه الفتاة فقط وإنما بوضع المرأة المغربية بشكل عام، إنها هنا فى هذا الفيلم تستخدم التاريخ خلفية أو وسيلة لتوصيل رسالتها عن ضرورة التخلى عن تقاليد وموروثات اجتماعية، تعرقل المرأة وتخلع عنها إنسانيتها، ما يعنى أن فيلمها دعوة للتحرر من هذه الموروثات القاسية، وأيضًا دعوة لقبول الأخر أيًا كان لون بشرته، أو الجغرافيا التى ينتمى إليها.
ما يعنى أيضًا أن الفيلم الذى شارك فى تمثيله: مونا نداى، ليسيا بنغازى، شاميما بيلاساريا، أبيلا بن سعيد، سعاد خويى، صلاح الدين بن نوسة، ويطرح قضية زواج المتعة، فالفتاة أناطو شديدة الجمال والذكاء والموهبة، أحبها أحد التجار المغاربة وجلبها إلى بيته فى المغرب من السنغال، حيث عاشت حياة تتسم بتعدد الهوية، لكنها فى المجتمع الجديد تجد كراهية لها وقسوة لم تكن تتوقعها.
القسوة من زوجة الرجل وحماته، والاثنتان بالرغم من قوتهما وفعالياتهما فى محيطهما، هما فى الأصل ضحية موروثات اجتماعية، تقبل بزواج المتعة، وقبله تقبل فكرة الزواج بدون حب، لمجرد الزواج والإنجاب والحفاظ على الشكل العائلى، فحتى الحماة التى أدتها "سعاد خيوي" كان زوجها فى شبابه يمارس زواج المتعة وغيره من علاقات خارج العلاقة الرسمية، وهى مثل كل امرأة تتمرس أكثر فى وضعها العائلى، وتصبح قاسية دون أن تأخذ موقفًا أخر يقدر إنسانيتها.
الموضوع فى هذا الفيلم ليس معركة بين المرأة والرجل، إنما هو طرح للقضية ومحاولة للتصالح الإنسانى، وبدا ذلك من البداية بحضور الطفلة ابنة التاجر المغربى التى تعاطفت مع أناطو، وكانت من أسباب تحول مشاعر أمها السلبية تجاه أناطو، فهذه الطفلة نشأت على مأساة أناطو، ما جعلها تتمرد على الموروث الخاطيء بحق المرأة، إنها مثال لجيل جديد لا يسمح بأن ينتقص منه أحدًا، وفى ذات الوقت يقبل مشاركة الآخر الحياة بشكل متساوِ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة