السياسة الخارجية فن بناء وحماية المصالح، والحفاظ على توازن القوى، وهذا التوازن يعنى إدراك كل طرف أن الأطراف الكبرى تمتلك قدرة على الردع، وطوال نصف قرن ما بعد الحرب العالمية الثانية كان توازن القوى بين المعسكرين الغربى والشرقى، يقوم على الردع، انتهت الحرب العالمية الثانية، وسبقت الولايات المتحدة بإلقاء القنابل النووية على كل من هيروشيما وناجازاكى فى اليابان، رغم أن الحرب كانت اقتربت من النهاية، وبدأ المعسكر الشرقى جولة السباق حتى امتلك سلاحه النووى، وهناك إشارات إلى أن علماء الفيزياء النووية فى الغرب هم من سربوا أسرار القنبلة للشرق بعد أن أصابهم الرعب من أن يبقى السلاح النووى فى يد واحدة، وظل سباق التسلح والفضاء علامة الحرب الباردة، حتى انتهت الحرب بعد الغزو السوفيتى لأفغانستان وخروج السوفييت من المعادلة.
ووسط هذا الاختلال شهد العالم فراغا تصدرت فيه الولايات المتحدة الصورة، وفى المنطقة العربية والشرق الأوسط، بدأ الاختلال يظهر فى غزو العراق للكويت ثم حرب تحرير الكويت بتحالف دولى، لم يتوقف الاختلال طوال هذه السنوات.. ومنذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين ظهر الإرهاب ضمن معادلات الحرب الباردة، فى أفغانستان وتفاعلات التطرف من السلاح، خرج الاتحاد السوفيتى، تاركا فراغا ووجد تنظيم القاعدة طريقا لاستعراض قوته فى مواجهة صانعيه.
خرجت الولايات المتحدة من محيطها، لتشن حربا على أفغانستان ثم تغزو العراق، لتبدأ مرحلة جديدة من اختلال التوازن، وصلت ذروتها فى تفاعلات التغيير قبل عقد، ويولد تنظيم داعش ليبدأ مرحلة جديدة تلعب فيها المرتزقة دورا مهما فى حروب بالوكالة، مستغلا فراغا أدى إليه اختلال القوى داخل سوريا والعراق واليمن وليبيا، والنتيجة اضطرابات وصراعات وفوضى ولاجئين.
كانت هذه التحولات تجرى تزامنا مع تحول واسع فى شكل ومضمون السلطة بالعالم، وثورة معلوماتية وتكنولوجية، تتيح حروبا دعائية تتوازى مع حروب السلاح، تديرها أجهزة الإعلام الإقليمية والدولية، ومواقع التواصل، ومنها حجم الأخبار والتحليلات والتقارير الملونة التى تصنع حالة من الارتباك والتلبك المعلوماتى.
بسبب التشابك فى القضايا الإقليمية وخرائط الصراع والمنافسة، يضاعف من صعوبة الحكم على ما يجرى إقليميا ودوليا أو استنتاج اتجاهات التحالف والتنسيق، ولا يمكن التعامل مع كل قضية إقليمية أو تحد للأمن القومى بمعزل عن باقى القضايا، ووسط هذا الواقع الملتهب كانت الدولة المصرية تتحرك بشكل مستمر وعلى خطوط متقاطعة وخيوط دقيقة، لا تتحرك فى قضية دون أخرى، ولا تعمل بعض الوقت، لكن تتعامل مع التحولات الإقليمية والدولية بكل اتجاه، مع مراقبة مواقف الدول والتكتلات الكبرى، المصالح والمطامع تتم فى نفس الوقت، خارجيا وداخليا بنفس الدرجة.
ومن يريد النظر إلى سياسات مصر الإقليمية والدولية مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، يكتشف حجم الجهد من الخارجية والأجهزة المعلوماتية، ودور القوات المسلحة، وتطور شكل ومضمون القوة الاستراتيجية المصرية، كان على مصر أن تواجه الإرهاب الممول والمدعوم ، وتحل معادلات الاقتصاد والبنية الأساسية، وتبدأ خطط التنمية وشبكات الطرق والمدن والزراعة، وفى نفس الوقت تتابع تحولات وصراعات من سوريا والعراق وإلى ليبيا واليمن وفلسطين، وتدعم مصالحها فى مياه النيل، وتواجه مناورات وألاعيب، وتحمى حدودها الغربية مع ليبيا، وتدعم خيارات ومصالح الشعب الليبى فى مواجهة ميليشيات تحارب بالوكالة وأطماع ومصالح لدول كبرى وإقليمية.
كانت التساؤلات عن أهداف تحديث التسلح، وإمكانية بناء النفوذ، بسياسات تستبعد التهديد، وتستدعى الردع، كل هذا يجرى فى محيط ملتهب وتقاطعات وخرائط متقلبة، تفتح ممرات للحوار وبناء الثقة وتقديم الشراكة وتخفيض الصراع، وتواجه حملات دعائية وشائعات ومنصات معادية، وتتقدم فى ظروف يفوز من يبقى فيها على حاله.
p